يمكن اعتبار الكاتب الفرنسي الكبير اميل زولا، مفكراً ذا توجهات اشتراكية وجمهورية، وفي بعض الأحيان صاحب نزعات ديموقراطية - وفق مزاجه على الأقل - لكنه لم يكن أبداً ماركسياً، بل إنه كان من ناقدي الماركسية وأصحابها ولا سيما مؤسّسها، بحدة في زمنه، أي خلال العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر. ومع هذا، ها نحن نجده أوائل ذلك العقد ينكبّ، بكل جدية وتفانٍ، على قراءة بعض أبرز أعمال مؤسس «المادية التاريخية»، ولا سيما ما توافر له من نصوص «رأس المال». فما الذي جذب اميل زولا الى قراءة كارل ماركس؟ ولماذا تراه بذل كل ذلك الجهد الذي يقال انه استغرقه ما لا يقل عن عامين؟ الجواب في كل بساطه هو روايته «المال» التي صدرت أواخر العام 1891. وبالتحديد رسمه لواحدة فقط من شخصيات هذه الرواية، ولم تكن شخصية رئيسة فيها: شخصية الاشتراكي الشاب سيغسموند بوش الذي كان مناضلاً نشطاً، وله - وفق الرواية - مراسلات متواصلة مع كارل ماركس. ولكن هنا قد يكون علينا أن نشير الى ان قراءة زولا لماركس، لم تنتج رسماً جيداً لتلك الشخصية فقط، بل أنتجت المناخ العام لرواية «المال» - حتى وإن لم يعترف زولا أبداً بذلك -. فالحال ان هذه الرواية التي تكاد تكون جزءاً على حدة بين أجزاء سلسلة «روغان - ماكار»، كانت أول رواية جدّية في تاريخ الأدب تجعل من عالم البورصة والمضاربات المالية الرأسمالية موضوعاً لها، انطلاقاً من مقولات ماركس وانتقاداته التحليلية للرأسمالية المالية وتوجهاتها. ومن هنا كان ترحيب الكتاب والنقاد الاشتراكيين برواية اميل زولا حال صدورها... ولكن أكثر من هذا: من هنا كان ترحيب الأوساط اليسارية الفرنسية أواخر سنوات الثلاثين من القرن العشرين بالفيلم الذي حققه السينمائي مارسيل ليربييه، انطلاقاً من هذه الرواية، حتى وإن كان لم يَدْنُ في تحليله السياسي - الاجتماعي والاقتصادي فيها، مما كان زولا قد وصل اليه. ثم بعد كل شيء: كان فيلم ليربييه منتمياً الى السينما الصامتة، أي أنه كان عاجزاً - بسبب غياب الحوار المعمّق والتحليلي فيه - عن أن يرسم حقاً أواليات عمل البورصة والرأسمالية المرتبطة بها. غير انه في الوقت نفسه عرف كيف يرسم الأجواء اللاإنسانية التي تهيمن على كل ممارسة رأسمالية، ما قد ذكر به لاحقاً واحد من أهم أفلام الأميركي «المنشق» أوليفر ستون وهو فيلم «وول ستريت». ولعل ما ساعد ليربييه في جعل فيلمه مقبولاً من ذلك الصنف - النافذ في ذلك الحين - من المفكرين والنقاد، انه نقل أحداث الفيلم، من أجواء الامبراطورية الثانية التي وضعها زولا للرواية، الى أجواء فضائح البورصة التي هيمنت خلال ما سمي ب «سنوات الجنون». واللافت هنا ان يكون فيلم «المال» لليربييه قد عرض في وقت اندلعت فيه كارثة البورصة في نيويورك وفي العالم كله، كاشفة نمطاً من الممارسة الرأسمالية عبر واحدة من أصعب مراحلها. لكن المؤسف - بالنسبة الى ذلك المخرج الطموح - كان أن الفيلم لم يلق الإقبال الجماهيري، وفقط لأن السينما الناطقة كانت قد بدأت تنتشر، ما جعل السينما الصامتة ضئيلة الأهمية. وقد حاول المخرج لاحقاً أن يضيف حواراً تحليلياً الى بعض مشاهد الفيلم الأساسية، لكن محاولته أتت باهتة ولم تقنع. إذاً، تبقى الأهمية الفائقة لهذا الفيلم، أهمية تاريخية، وأهمية فنية أخرى تنبع من كونه كان، في ذلك الحين، واحداً من خيرة الأفلام التي اهتمت بنقل أدب اميل زولا الى الشاشة الكبيرة. ناهيك بأن مارسيل ليربييه نفسه، كان في العام 1924 قد نقل الى الشاشة أيضاً رواية أخرى لزولا هي «اللاإنسانية». أما في «المال»، فإنه عرف كيف يعبّر خير تعبير عما كان سائداً في الأوساط اليسارية الفرنسية في ذلك الحين من أن المال هو أقسى الشرور التي تحيق بالمجتمع البشري! غير أن ما يجب التوقف عنده هنا، هو أن فيلم «المال»، حتى وإن كان مقتبساً من رواية اميل زولا، لم يتمكن من أن ينقل سوى جزء يسير من أحداثها ومن أجوائها، على رغم فترة عرضه التي كانت في ذلك الحين تعتبر استثنائية (3 ساعات وربع ساعة). المهم أن الفيلم حُقّق، وصار جزءاً من تاريخ السينما، وتحديداً من تاريخ علاقة السينما بالأدب من ناحية، وعلاقتها بالأفكار الراديكالية من ناحية ثانية. وأحداث هذا الفيلم تدور، كما هي الحال في الرواية، من حول شخصين يتنازعان في ما بينهما السيطرة على الأسواق المالية العالمية، وهما ساكار، المضارب الذي لا يتسم بأي ضمير أو إيمان، وغوندرمان، الرأسمالي الذي يقدَّم الينا في الفيلم رجلاً نزيهاً يحقق ربحه وحياته من دون ان يسعى الى إلحاق أضرار بالآخرين. وذات مرة، وبسبب أوضاع متراكمة، يجد ساكار نفسه على شفا الافلاس. فلا يكون أمامه إلا أن يلعب مراهنته الأخيرة على طيار جريء كان يستعد في ذلك الحين للقيام بمغامرة طيرانية شديدة الخطورة. وكان هذا الطيار في الأصل يمتلك كمية لا بأس بها من أسهم شركات النفط العاملة في منطقة غويان المستعمرة من جانب فرنسا. وينجح ساكار في مراهنته، لأن الأسهم التي كان اشتراها مراهناً عليها قفزت أسعارها صعوداً، ما جعله يحقق أرباحاً طائلة. فهل يكتفي بهذا؟ أبداً لأن الطمع المتجذر لديه يقوده الى محاولات أخرى. وعند ذلك تنكشف للسلطات المالية ضروب الغش والرشوة التي لجأ اليها، وكانت هي في الأصل سبب نجاح رهانه الأول، فيُسجن... غير ان سجنه لا يعني أنه انتهى، لأن الكلمة الأخيرة في مثل هذه الحالات تكون عادة للمال نفسه وليس للنزاهة. وهنا قد يكون من المفيد ان نذكر أن أحداث الفيلم تبدو، في مسراها وأجوائها مختلفة عن أحداث الرواية. ولا سيما في مجال أساسي وهو أن ليربييه جرّد شخصياته تقريباً من أبعادها الاجتماعية، جاعلاً تصرفاتها وسلوكها تنطلق من أبعاد ربما تكون سيكولوجية، بينما نرى زولا في الرواية يربط الشخصيات بأبعادها الاجتماعية، ومواقفها بما تمليه عليها تلك الأبعاد. وكذلك بدّل ليربييه من هوية الشخصية الثانية، إذ إنه في الرواية كان هاملين، الذي يسرق ساكار أفكاره ليضارب من حول اسهم «البنك الدولي» الذي كان أسسه معه. ثم ان ساكار في الرواية يتمكن من معرفة قرب عقد الهدنة بين النسما وبروسيا، ما يمكنه من شراء أسهم كانت أسعارها انخفضت فإذا بها الآن ترتفع في جنون. أما غوندرمان، فإنه لا يلعب في الرواية الدور الذي يلعبه في الفيلم... وساكار في الرواية لا يتوقف عن تحقيق النجاح تلو النجاح والمضاربة تلو المضاربة، حتى اللحظة التي يوقع به فيها نائب عام يكرهه، ويصل الى السجن. وحتى في السجن هنا نراه يخطط ويعمل لمضارباته المقبلة... وهكذا، بين نص اميل زولا الرائد والاستثنائي، وبين فيلم ليربييه، الاستثنائي أيضاً ولكن على طريقته الخاصة، عرفت السينما باكراً، وبعد الأدب، كيف تخوض في واحدة من أعقد المعضلات التي كانت ذات علاقة بالمجتمع من دون أن يسبق للمجتمع هذا أن تنبه اليها حقاً: المال والبورصة. غير ان النجاح الذي حققه المضارب الأساسي في الفيلم، لم يُقيّض لمارسيل ليربييه أن يحققه. إذ إن هذا المخرج والمنظّر لفن السينما والذي عاش بين 1888 و1980، عجز في «المال» عن تحقيق نجاح يماثل، حتى نجاح أفلامه السابقة. ومن هنا نراه بعده يتخلى عن طموحاته في تحقيق أفلام جدية، ليغوص لفترة في تحقيق أفلام ترفيه تجارية ظل يواصل العمل عليها حتى تقاعده خلال الحرب العالمية الثانية، ليعش بعدها متحسراً على سينما لم يتمكن من تحقيقها، وعلى ذكريات فيلم «المال» الذي كان، على أي حال، رائداً ونال حظوة لدى النقاد لم ينلها لدى الجمهور. [email protected]