«أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً»، حكمة جميلة حتى لو استرجعناها أيضاً متأخرين، المهم أننا نتدارك أنفسنا قبل أن يجرفنا السيل ولات حين مندم، أرجو أن نعي هذا جيداً ليس في أمورنا الخاصة فقط بل وحتى العامة، وهي أخطر وأبقى أثراً، ولعلنا اكتشفنا أخيراً حجم الفساد المستشري في البلد على أيدي العمالة الوافدة، ولكي نكون منصفين نقول وعلى أيدي بعض المواطنين الذين لا يعني لهم الوطن أكثر من تعبئة جيوبهم من تجارة ما يشبه الرقيق، رقيق «الفيز» التي كانت توزع بما يشبه «الشرهات» حتى غص البلد بأسوأ العمالة الوافدة، وكان ضريبتها ما شاهدناه وسمعنا عنه مما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة، لقد كشفت لنا الحملات الأخيرة التي قامت بها اللجنة المكونة من الكثير من الجهات المسؤولة عن هذه العمالة المتخلفة عن عمق الفساد بين هذه العمالة، الفساد الذي وصل إلى مأكلنا ومشربنا، ووصل حتى إلى أمننا وسلامة أرواحنا. الحملات كشفت لنا حقيقة المطاعم العالمية التي كنا نتباهى بأنها تؤكلنا أطعمة فاسدة، بمعنى أننا نحمل أمعاءً تحتاج للتطهير مما علق بها من جراثيم وأمراض، كنت إلى وقت قريب لا أكف عن التردد بأطفالي إلى المستشفيات على إثر نزلة معوية أصابتهم، ولم نكن نسأل عن مصدر هذه النزلات، ولم تكلف وزارة الصحة نفسها آنذاك البحث عن تفشي هذه الأمراض، خصوصاً بين الأطفال ولو فعلت لكفت نفسها مؤونة ملايين الريالات كانت تدفع ثمناً للعقاقير التي تصرف بكرم للمرضى. قبل أسابيع اتصل بي جاري يستشيرني في «حنيني» ابتاعه من شركة زراعية كانت رائحته منتنة للغاية، فأشرت عليه بتقديم بلاغ ليجيء مراقب البلدية ويكتب محضراً ويغادرنا، وبحسب الإجراءات المتبعة لجأ جاري إلى شرطة «العليا»، حيث البلاغات عن سرقات وجرائم، قدم بلاغه عن «الحنيني» الفاسد، وحتى اليوم لم يحدث أي رد فعل قانوني يذكر، ولا حتى اتصال أو إشعار يفيد بمجريات البلاغ، حتى فقد أمله أن إجراء يحترم وطنيته ويرد إليه اعتباره سيقتص له من شركة كبيرة تقول في شعارها «حيث المنتجات الطازجة»، نحن لن نعتب كثيراً أو نبتئس من المطاعم المتناثرة بين أحيائنا ما دام العيب يأتينا ممن لا نخالهم أهل عيب، هنا مربط الفرس ما تقوم به اللجنة المكلفة بلملمة عشوائيات العمالة الوافدة هي تقوم كما عبّرت وزارة العمل عن ذلك بتصحيح وضع، ليس وضع العمالة فقط بل تصحيح وضع الجهات المسؤولة عن كل هذا السوء الذي باءت به ديارنا على خلفية إهمال غير مسؤول، نتيجته رأيناها ماثلة للعيان، لا أعتقد بأن الأمر يجب أن يتوقف عند هذا الحد، بل يجب أن تعيد الجهات المسؤولة عن سلامة المواطن في مأكله ومشربه النظر في آليتها لتقصي مكامن العيب والخلل في الأغذية والمشروبات التي نتناولها. يبدو أننا الشعب الوحيد على وجه الأرض الذي يتناول ما لا يعرف، ونصاب بالذعر ونحن نقرأ بعض النشرات المسربة عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن أغذية ومشروبات نتناولها يومياً تحتوي على مواد مسرطنة، وبما أن الصمت المطبق هو سيد الموقف يتلاشى هذا الذعر ونستمر في تعاطي هذه المحذورات. السؤال: لماذا هذا الصمت؟ من المستفيد منه؟ هل هي الشركات المورد الكبرى؟ حتى المياه المعبأة محلياً لم تسلم من التلوث، ومع ذلك يقابل بالتجاهل، تستطيع اللجنة المكلفة بلملمة عشوائيات العمالة الوافدة باقتحام الأوكار واصطيادهم وكشف كل مخالفاتهم بدءاً من المتاجرة بلحم الحمير وحتى أقفاص الحمام، وهذه جهود يشكرون عليها، ولكن هناك أيضاً ما هو أهم، الأغذية المستوردة والمصنعة محلياً، من يحمينا منها؟ هل قامت وزارة الصحة بتكثيف جهودها بالبحث والتقصي عن أسباب تكاثر المصابين بالأورام السرطانية، وتمركزهم في مناطق معينة، هل قامت وزارة المياه والكهرباء بالكشف عن تلوث المياه الجوفية باليورانيوم؟ هل قامت هيئة المواصفات والمقاييس بتحليل عينات من الأغذية؟ لماذا دائماً نؤثر الصمت كلما خرجت نشرات تؤكد وجود مواد مسرطنة حتى في أغذية الأطفال؟ هل المواطن رخيص إلى هذا الحد؟ وهل أموال الدولة التي تذهب ثمناً للعلاج الداخلي والخارجي لا تعني شيئاً لهم؟ لا أعتقد بأنهم يجهلون حقيقة البلايين التي تنفق سنوياً على المرضى، خصوصاً مرضى السرطان وتليف الكبد والفشل الكلوي، فلو قامت من خلال مراكز بحث مخصصة لهذه الأمراض الثلاثة لقلصت من هذا الإنفاق بشكل كبير، من ماذا يخشون؟ هل يخشون من مجاعة ستتفشى فيما لو اكتشف بأن أكثر المنتجات الغذائية وصادراتنا منها ملوثة؟ وها نحن متخمون ماذا حل بنا سوى الأمراض المتنوعة والمتعددة، لنأخذ بمثلنا الشعبي الشائع «الصحة بأطراف الجوع» ولنعان قليلاً من نقص في الغذاء كما سنعاني من نقص في الأيدي العاملة حتى يتم تصحيح الوضع، وتعود إلينا صحتنا المفقودة. المواطن يطالب وزارة الصحة وهيئة المواصفات والمقاييس بنشرات أسبوعية تبين حال الأغذية والمشروبات التي نتناولها، عوضاً عن النصائح والتحذيرات المجانية بهدف إخلاء المسؤولية في ما لو حدثت كارثة طبية، فهل تفعلان أم لا؟ * كاتب وروائي سعودي. [email protected] almoziani@