كان لافتاً في تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بمناسبة الاتفاق الأميركي – الروسي حول سورية، تشبيهه للتعاون المأمول مع روسيا بذلك الذي قام بين البلدين في مواجهة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. فإذا استبعدنا تفسير العبارة على أنها تشبيه لنظام الأسد بنظام هتلر، لأن روسيا بوتين سترفض التشبيه حتماً، لا يبقى إلا تأويلها على ما رست عليه الحرب الثانية في ألمانيا: تقسيم الدولة والعاصمة برلين بين القوتين العظميين. ربما علينا، قبل الخوض في هذا السيناريو، أن نلقي نظرة على اتفاق الطرفين المعلن على الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي حول سورية يكون بيان جنيف الأول مرجعيته الرئيسة. كان البيان المذكور أول إجماع دولي، ضم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، حول حل سياسي للمشكلة السورية. فبالنظر إلى استعصاء الصراع الداخلي على معادلة يستحيل معها تحقيق أحد الطرفين نصراً حاسماً، وإلى تدخل دول كثيرة في الصراع المسلح لصالح الطرفين، باتت المسألة السورية مدوّلة بصورة مطلقة، ولا يمكن الوصول إلى تسوية سياسية إلا بتوافق يأخذ في الاعتبار مصالح الدول المعنية، بعيداً عن مصلحة الشعب السوري. لنستدرك منذ الآن بالقول إن هذه الأخيرة غائمة بذاتها، تفترض وجود كيان سياسي هو «الشعب السوري» له مصالح وتطلعات محددة ومعلنة. وهذا غير محقق اليوم. الحركة الديبلوماسية المحمومة القائمة منذ الإعلان عن الاتفاق الأميركي – الروسي على جنيف 2، تشير إلى أن الطرفين جادان كل الجدية وعازمان على التسوية السياسية، وعلى استخدام كل الأوراق التي يملكانها لإقناع السوريين بها. كل من النظام ومعارضيه لا يريد أي تسوية، حربهما إلغائية لا تعترف بالحلول الوسط. لذلك سيراهن كل طرف على تحميل مسؤولية إفشال التسوية المفترضة للآخر. هذا مفهوم، ولكن هل مسموح لهما دولياً بإفشال جنيف2؟ بكلمات أخرى: ما هي أدوات الضغط التي تملكها الدول الفاعلة لإرغام السوريين على القبول بالتسوية؟ الروس والأميركيون «يملكون» نظام الأسد الذي يواصل تدمير البشر والحجر بلا كلل، وهو مستعد لمواصلة هذا الطريق إلى النهاية ما دام الدعم الإيراني والروسي له بالسلاح والرجال والحماية في مجلس الأمن. الأداة الثانية التي يملكها الأميركيون للضغط على النظام، هذه المرة، هي إسرائيل التي أرسلت له رسالة قوية في أوائل أيار (مايو) عبر الضربة العسكرية الساحقة في دمشق، ولم تعرف بعد فاتورتها الحقيقية. الأداة الثالثة للضغط على المعارضة هي حرمان الجيش الحر من الإمدادات، وإن كانت الولاياتالمتحدة لم تقدم أي مساعدات عسكرية إلى اليوم، ولا نية لديها لتقديمها مستقبلاً. لكنها قادرة على التأثير على حلفائها الإقليميين بهذا الاتجاه، نعني بصورة رئيسية تركيا وقطر والسعودية والأردن، إضافة إلى بريطانيا وفرنسا. وتأتي ورقة جبهة النصرة ودولة العراق الإسلامية في هذا الإطار للضغط على الدول المذكورة من جهة، وعلى المعارضة السورية من جهة ثانية. فلا أحد يمكنه اليوم أن يدافع عن المجموعتين المذكورتين في المناخ الدولي المحيط بالوضع السوري. ولكن لا أحد في المعارضة أو الدول الداعمة لها يريد، بالمقابل، فتح معركة معهما. تشكل المجموعات الجهادية إذن الخاصرة الرخوة للثورة السورية. غير أن أداة الضغط الأقوى على الثورة إنما هي سيناريو التقسيم الذي شكلت المجازر الطائفية في البيضا وبانياس والنبعة نذيرها المشؤوم. الواقع أن المجتمع السوري انقسم، أثناء الثورة، انقساماً حاداً يصعب ترميمه. مسؤولية الطغمة الحاكمة عن هذا الشرخ الوطني لا جدال فيها، لكن الإقرار بهذه المسؤولية لا يكفي لإنكار حدوث الشرخ. وهذا ما يعيدنا إلى الاستدراك في مطلع المقالة: هل هناك كيان سياسي واضح المعالم يمكن تسميته بالشعب السوري؟ في بداية الثورة كانت لدينا فرصة لتكوّنه، لكننا خسرناها للأسف منذ وقت طويل. على الأقل منذ بدأت المجازر الطائفية من الحولة، ومنذ نشأ في حمص الموالية ما سمي ب «سوق السنة». وها هو النظام، وحليفه الإيراني في لبنان حزب الله، يستميتان في معركة القصير بهدف وضع خريطة جديدة على طاولة المؤتمرين المحتملين في جنيف2. هي الخريطة التي تجعل من احتمال إقامة الدويلة العلوية احتمالاً قابلاً للتحقيق، وتالياً للتفاوض عليه. على ماذا سيتفاوض إذن الأميركيون والروس لفرض تسوية على الأطراف السوريين وداعميهم الإقليميين؟ الإبقاء على «مؤسسات» النظام، الجيش وأجهزة الأمن بصورة رئيسية، وإجراء تعديلات شكلية على جوهر النظام السياسي القائم، وإشراك قسم من المعارضة في المسؤولية عن «إعادة الاستقرار» أي وأد ثورة الحرية ونزع سلاح الجيش الحر وإدماج قسم منه في جيش النظام مع شراء قادة الكتائب والألوية بمكاسب معينة. وتصبح المهمة الرئيسية الموكلة إلى النظام «الجديد» (أي القديم) محاربة المجموعات الجهادية الموسومة بالإرهاب كجبهة النصرة وشقيقاتها. ماذا عن «عقدة الأسد»؟ لعل موضوع مصير الدكتاتور السوري هو الأسهل في أي تسوية قادمة. بحماقة ورعونة إدارته لأزمة نظامه، طوال عامي الثورة، قضى الدكتاتور الصغير بنفسه على كل أمل في «مستقبله السياسي». تحتاج قاعدته الاجتماعية إلى ضمانات دولية لتتخلى عنه بمنتهى السهولة. الإبقاء على «مؤسسات النظام» يمثل ضمانة كافية ليتخلص «الموالون» من الكارثة التي كانها لهم، كما لسورية، بشار وعائلته. فلم يكن تمسكهم به أصلاً بسبب كفاءته في الحفاظ على مصالحهم أو أمنهم، ولا بسبب «حبهم» المزعوم له، بل بسبب غياب أي ممثل سياسي آخر يمكن أن يفاوض باسمهم. فإذا تنطح الروس للقيام بهذه المهمة، تحرروا من العائلة الحاكمة بأسرها، فضلاً عما يمنحهم ذلك من فرصة لإلقاء مسؤولية الدماء التي سالت على كبش فداء ملائم. إن تسوية مشابهة، تحت سيف «وإلا فالتقسيم!»، من المحتمل أن تلاقي صدىً إيجابياً لدى قسم كبير من السوريين الذين تراجعت أحلامهم، بفعل القتل والتدمير المتواصل، من الحرية والكرامة والجمهورية الديموقراطية إلى وقف القتل وشلال الدم. وهناك ما يسمى بالمعارضة المعتدلة، ممثلة بهيئة التنسيق وشبيهاتها، جاهز للانخراط في هذه التسوية. ولكن ماذا عن «روح الثورة»؟ أعني الديناميات العميقة التي شكلت قوة ثورة الشعب على طغيان بدائي همجي يعتبر نفسه الدولة. إنه سؤال معلق.