يمكن القول ان قطاع الكهرباء العملاق قد تخلى عن النفط صاحب القوة والنفوذ في السبعينات من القرن الماضي فلم يعد معتمداً عليه، وفي العقد التالي أي في الثمانينات تلقى النفط ضربة موجعة أخرى وهي انه خسر نسبة كبيرة من اعتماد القطاع الصناعي عليه، وتوالت اللكمات على هذه السلعة الاستراتيجية المهمة في نطاق المكان والزمان، فجاء إنتاج السيارة الكهربائية ودشن في عدد من البلاد منها بريطانيا التي أخذت تزيد من محطات التزود بالكهرباء لتلك السيارات سعياً منها للخروج من عباءة النفط!! ولم يقف الأمر عند تلك التحديات فجاءت المحروقات الحيوية لتحاول زحزحة النفط عن مكانه كوقود أمثل وتأتي الولاياتالمتحدة أكبر مستهلك للنفط في المرتبة الأولى من حيث إنتاج الوقود الحيوي بإنتاجها 15 مليون طن من المحروقات الحيوية (ايثانول)، وفي سباق الحد من سطوة النفط وسيطرته أعلنت شركة جنرال موتورز مؤخراً انها ستقوم بإنتاج سيارة أطلقت عليها اسم (فولت) وقالت انها ستسير بمعدل 220 ميلاً لكل غالون من البنزين، وعلى رغم ان في هذا مبالغة كبيرة إلا أنه على المدى البعيد يمثل تحدياً لسطوة هذه السلعة السحرية (النفط)! وعلى رغم ما قيل وملأ الغمام من اكتشافات واختراعات تحد من هيمنة النفط فإنه برأينا لا يواجه خطراً محققاً وسيبقى الخيار المفضل لتحريك الآلة في الدول الصناعية أكبر مستهلك للنفط كما في الدول الناشئة مثل الصين والهند وكذلك في الدول المتخلفة، بل ان العالم سيواجه لا محالة أزمة نفطية عالمية في المستقبل المنظور مع الانخفاض المستمر في إنتاج بعض الدول وتدني احتياطيها مثل منطقة بحر الشمال وخصوصاً في بريطانيا والنروج، وهذا عائد لظاهرة النضوب الطبيعي التي شهدتها حقولها النفطية وكذلك انخفض احتياطي الولاياتالمتحدة من 21.76 بليون برميل بحسب تقديرات 2006 ليصبح في عام 2007 بحدود 20.97 بليون برميل، ولم تكن حال المكسيك إحدى الدول الرئيسية المنتجة أحسن حالاً فقد تراجع احتياطيها ليصبح 11.65 بليون برميل عام 2007 بعد ان كان في العام الذي سبقه 12.25 بليون، بل ان دولة تملك احتياطياً نفطياً كبيراً مثل كازاخستان تراجع احتياطيها من 39.8 بليون إلى 30 بليون برميل للفترة نفسها، إضافة إلى ان هناك تراجعاً في الاحتياطات في دول أخرى مثل إندونيسيا التي خرجت من عقد «اوبيك» وهناك دول أخرى انخفض احتياطيها غير تلك التي ذكرناها. أما بالنسبة الى «اوبيك» فان احتياطيها لم يتعرض للنقصان حيث يبلغ حوالي 930 بليون برميل ولهذه الحقيقة أهمية كبرى لأن هذه المنظمة تزود العالم بأكثر من 40 في المئة من احتياجاته من النفط. والأهم ان دول مجلس التعاون الخليجي الست بالإضافة إلى إيران والعراق يبلغ احتياطيها المؤكد مجتمعة حوالي 730 بليون برميل، وهذه الدول بإمكانها – إذا اتفقت رؤاها - ضبط ميزان العرض والطلب على النفط، فهي تملك بيدها مفتاح معادلة الأسعار في السوق الدولية للبترول إلى حد كبير، وهذا ثبت في معظم أزمات ثورات أسعار النفط منذ عام 1973 حتى الآن بما في ذلك فترة الثورة الإيرانية وكذلك أثناء نشوب الحرب العراقية - الإيرانية وحتى خلال سنوات ارتفاع الأسعار في شكل غير مسبوق نتيجة حروب بوش الابن على أفغانستان والعراق واحتلالهما، ناهيك ان هذه الدول استطاعت التأقلم مع انخفاض الأسعار في الثمانينيات وحتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي وتمكنت من تجاوز الأزمات بتخفيض الإنتاج المرة تلو الأخرى لتحسين الأسعار! ان النفط بميزاته الفريدة سيظل لسنوات طويلة مصدر الوقود والطاقة الأول في العالم وهذا يحقق له أسعاراً مجزية، نعم قد تنخفض أحياناً دون المؤمل ولكن لا يلبث ان يعود إلى أسعاره المعقولة. فبعد الانخفاض الذي تعرضت له أسعاره نتيجة الأزمة الاقتصادية ما لبثت ان عادت للارتفاع فقد بلغت في الأسبوع الماضي أكثر من 73 دولاراً للبرميل وهي مرشحة للصعود مع تعافي بعض الاقتصادات في شكل جزئي في اليابان وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول، فالنفط سيبقى سيد الثروات، وسينمو استهلاكه عاماً بعد آخر على رغم الزلزال العظيم الذي ضرب اقتصاد العالم شرقاً وغرباً. ولكن الشيء المؤسف ان دول المجلس على رغم ما تملكه من ثروة طبيعية هائلة من النفط والغاز، إلا أنها على الجانب الآخر فقيرة فقراً مدقعاً في العنصر البشري المؤهل المدرب القادر على العطاء وتحقيق النتائج المقصودة! ولا نقول هذا من فراغ فالإنسان هو أهم مقومات الإنتاج وعناصره ومن دونه لا تكون تنمية مهما توافر لها من المقومات المادية، ولو نظرنا حولنا لوجدنا ان الدول التي تسمى متقدمة إنما تقدمت بتنمية قدرات انسانها، وكثير من الدول الصناعية لا تملك ثروة النفط والغاز ولكنها تملك الإنسان المدرب ذا القدرة العالية، ومن تلك الدول اليابان صاحبة أحد أكبر الاقتصادات في العالم والتي تكاد تكون فقيرة بالمواد الخام كما بالنفط، ولكنها من أكبر الدول الصناعية في العالم. لا شك في أن المواد الخام والطاقة من أهم مقومات الصناعة، ولكن يبقى الإنسان ذو القدرات العالية هو العامل الأهم، معه تتحول المواد الخام إلى آلات وأجهزة ومعدات، أو إلى عناصر أخرى أكثر فائدة وأغلى ثمناً. ولذلك فإن الدول الغنية بالموارد الطبيعية من البترول والغاز ولكنها أهملت إعداد انسانها وتطوير قدراته ظلت تصدر تلك المواد الخام بأسعار بخسة وظلت محسوبة مع الدول النامية وهو اسم مهذب للدول المتخلفة، بينما الدول التي اهتمت بتطوير الأيدي العاملة فيها وتدريبها تستورد المواد الخام بأبخس الأثمان لتحولها إلى صناعات متطورة وتبيعها بأعلى الأسعار وتعيش في بحبوحة من العيش. ان الإنسان هو القدرة الفاعلة التي تدفع بعجلة التنمية والاقتصاد، وهذا ما يجب على الدول التي تمتلك النفط والغاز وغيرهما من الموارد الطبيعية ان تفهمه. ولتعلم دول الخليج العربي انه إذا لم يتم الاهتمام بالعنصر البشري وتوفير الأيدي العاملة الماهرة فستظل تصدر المواد الخام وفي مقدمها النفط والغاز، بشكلها الأولي بأبخس الأثمان وأقلها وستظل تستورد المواد المصنعة بأغلى الأثمان وستظل تحسب من الدول المتخلفة التي يطلق عليها الدول النامية تهذيباً. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية [email protected]