بين كثيرين التقيناهم، نبطانيّين ونبطانيّات، في مدينتهم الجنوبيّة كما في بيروت وضاحيّتها، طلبت الغالبيّة ألّا تُذكر أسماؤها، فيما قالت الأقليّة إنّها لا تمانع في ذكر الأسماء. وخوفاً من ميل القرّاء إلى نسبة كلّ ما يرد في هذا التحقيق إلى أصحاب الأسماء التي تُذكر، آثرنا حجب الأسماء جميعاً، مع إدراكنا النقص الذي يتسبّب به ذلك. يقول نبطانيّ، لا يُخفي انتسابه إلى التقاليد والأعراف القديمة في التديّن، إنّ الشيعة اليوم فئتان: فئة تريد الدفاع عن السيّدة زينب ومقامها، وفئة ترى بصمت أنّ السيّدة زينب هي مَن يدافع عنّا. يرد الكلام هذا في معرض الحديث عن حزب الله وعن مشاركته في القتال السوريّ. لكنّ إيراده غالباً ما يشوبه الالتواء والتورية، وكثيراً ما يطلب قائلوه المتململون ألّا يُنسب كلامهم إليهم. والحال أنّ الصور، المتعدّدة الأحجام والألوان، التي تستقبل قاصد النبطيّة ترسم لوحة بليغة لهويّتها السياسيّة. فمن مدخل المدينة تطالع قاصدَها صورُ السيد حسن نصرالله وعماد مغنيّة والزعيمين الإيرانيين الإمامين الخمينيّ وخامنئي ومعها صور لرئيس حركة أمل نبيه برّي. وبين هذه وتلك بُثّت صور، هي أيضاً متعدّدة الأحجام والألوان، للرئيس السوريّ بشّار الأسد. لا يعني هذا أنّ حزب الله يحكم النبطيّة بالقمع والزجر والقوّة. غير أنّه، مع ذلك، يحكمها بأدوات قد تكون أشدّ تأثيراً. فتوفير فرص العمل والخدمات الطبّيّة والتعليميّة التي يقدّمها الحزب كثيرة تتعدّى الوظائف والمنح الدراسيّة وسواها إلى تقديمات يوميّة ك «بطاقة نور» مثلاً، التي يبلغ رسم الاشتراك فيها 20 ألف ليرة لبنانيّة (13 دولاراً)، لكنّها تتيح لدافعها حسومات في جميع المتاجر والمخازن ذات الصلة بالحزب، فضلاً عن مجالات الترفيه ودور الأطفال والملاهي، وصولاً إلى تنظيم الرحلات إلى الحجّ. يترافق هذا مع طقوس ومناسبات جرى تكثيرها بتوسّع وإفراط، واستُعين على ذلك بالطقوس والمناسبات الإيرانيّة التي جعلتها الخمينيّة فروضاً، أو بما حفّ بالتاريخ التنظيميّ والسياسيّ لحزب الله. وهذه مأخوذةً معاً، تخلق هويّة زائفة موحّدة يحسّ من يخرج عنها بالعيش وحده في الصقيع. وبالفعل ازدهر في السنوات الفائتة، في النبطيّة كما في باقي مناطق الحزب، ما لم يكن مسموعاً به من مناسبات: فهناك «أسبوع العباءة الزينبيّة» و«الليالي الفاطميّة» و«الشهر الفاطميّ» و«مجالس أمّ البنين» و«مولد السيّدة زينب» و«مولد السيّدة خديجة» و«مولد الإمام الخميني» و«مولد السيّد حسن نصرالله» و«مقتل عمر بن الخطّاب»... صناعة الأطفال ويُستكمَل هذا المجتمع الموازي في ألوان وأزياء، كهيمنة الأَسود وارتداء النساء العباءات والتحاء الرجال وتلاعب بعضهم بالسبحات، أو في أجسام صلبة كالمدارس وفرق الكشّافة على نحو يؤطّر المجتمع بأكمله بمقدار ما يكيّفه في صلبه العميق. ولا ينجو الأطفال من صناعة البشر على هذا النحو. فمنذ ثلاث سنوات باتت تقام مجالس عزاء لمن هم بين الثالثة والسادسة، فتروى لهم على نحو مؤثّر ومبسّط، وأحياناً عبر أفلام كرتون، قصّة كربلاء ومصرع الحسين، كما يُحتفل بتحجيب الفتيات البالغات (9 سنوات) بصفة ذلك «تكليفاً شرعيّاً». وفي موسم الحجّ يوضع مجسّم للكعبة في وسط النبطيّة يدور حوله الأطفال، في تقليد لفعل الحجّ، وهم يرتدون لباس الإحرام. وعبر الأطفال ينفتح الحزب على عائلات ليست مؤيّدة له تقليديّاً، أكان من خلال تحميل الطفل صوراً ومثالات حزبيّة تشطر البيت وأهواءه، أم من خلال الاستيلاء على مؤسّسات اللهو والفراغ حيث تُضطرّ الأمّ، أياً كان هواها السياسيّ، إلى الانتفاع بها إبّان عطل أبنائها. وكما في الحياة كذلك في الموت. فعبر الشهداء تجري مصادرة عائلاتهم بالمعنيين الماديّ والرمزيّ: ذاك أنّ الشهيد قد يخلّف وراءه أسرة تتطلّب الإعالة، وهو ما قد لا يتمكّن ذووه من توفيره، والأمر نفسه يصحّ في الجريح الذي يستدعي العلاج والمتابعة الطبيّة. ثمّ إنّ الصورة التكريميّة التي يرسّخها الحزب لشهيده هو ما لا تملك عائلته أن تجافيها، لأنّها تكون بذلك كمن يتنكّر لابنها الراحل. وهناك في ربط الحزب بجمهوره ما يشبه محاسبة المرتدّ. ذاك أنّ عقوبة ارتداد الحزبيّ عن الحزب مكلفة لأنّه قد يغدو، فضلاً عن تأثيمه، مطالَباً بإعادة ما أعطي قبلاً وما دُفع له ولعائلته من مال ومن تقديمات. فمن اختار الخروج عن هذه العلاقة ربّما وجد نفسه مطالَباً بسداد كلّ قرش تكبّده الحزب على بيته أو أبنائه أو طبابة فرد من أفراد عائلته. لكنّ آلة الصهر والاستيعاب تذهب أبعد من ذلك، بحيث يتراءى أنّ حزب الله يحكم جمهوره بالإجماعات المشتركة في ما بينهم. فمنذ عام 2000 على الأقلّ، وباستناد موارب على ترسانة من الأفكار خلّفها اليسار والناصريّة والبعث والمقاومة الفلسطينيّة، عُمّمت معانٍ لا تقبل النقاش عن المقاومة والقضيّة وما يتفرّع منهما. ومعانٍ كتلك يتشارك الجميع فيها حاكمين كانوا أو محكومين، إذ يردّد نقّاد كثيرون لحزب الله عبارات تفيد «أنّنا كلّنا مع المقاومة». «أنت خائن» بيد أنّ حزب الله الذي يمتلك السلطة في تحديد هذه المعاني، وفي تعيين السلوك المطابق لها، يستطيع أن يُشهر تهمة «الخيانة» في وجه كلّ من لا يتقيّد بما يحدّده ويعيّنه. لا بل يستطيع الحزب أن يفتح ملفّات قديمة، على نحو انتقائيّ، فيشير إلى صلة ما، أو قرابة ما، جمعت هذا المشكوك بولائه بعميل سابق لإسرائيل. وهي مهمّة سهلة في منطقة أخضعها الاحتلال مدّة 18 سنة ونسج فيها من العلاقات ما ينسجه كلّ احتلال مديد. مقابل هذا التنزيه، بل التقديس، لكلّ ما يمتّ بصلة إلى التاريخ «الجديد» البادئ مع حزب الله، هناك استهانة متعدّدة الأوجه والأشكال بالتاريخ «القديم» الذي انطوت صفحته وأُحيل عدماً. فإذا استحال تخيّل مدّ اليد إلى صورة لحسن نصرالله أو آية الله خامنئي، فهذا ما لا يصحّ في تمثال عالِم النبطيّة حسن كامل الصبّاح الذي وصفت إحدى الصحف ما جرى لنُصبه بالآتي: «مرّة جديدة، يمعن تلامذة «ثانويّة حسن كامل الصبّاح» في مدينة النبطية في طيشهم، مشوّهين النصب التذكاريّ للمخترع اللبنانيّ الراحل، الذي تحمل مدرستهم اسمه. إلى جانب كتابات «المراهقة» و«فسيفساء» أسماء التلامذة وبعض حبيباتهم التي تغطّي قاعدة التمثال وجسده، عمد بعضهم إلى «تزيينه» برسوم «مسيئة». لم يكتف هؤلاء بما دوّنته الطباشير والأقلام البيضاء، بل وضعوا زجاجة بيرة فارغة فوق الكتاب الذي يحمله صاحب التمثال بيمينه». وفي تواطؤ بين سطوة حزب الله وبين زحف الباطون والمصالح التي تحرّكه، تحوّل هدم البيوت التراثيّة والقديمة واحداً من الهموم اليوميّة لأهل النبطيّة. ولم يكن بلا دلالة أنّ هدم قصر آل الفضل في 1992، وهم الزعماء التقليديّون للمدينة حتّى الستينات، لا يزال «الإنجاز» الأكبر للوجهة الانقلابيّة هذه. «حاضرة جبل عامل» والنبطيّة تملك تاريخاً «قديماً» يعتزّ به النبطانيّون. فحتّى الخمسينات، كانت تُسمّى «حاضرة جبل عامل»، يقصدها المتعلّمون «فلا يكون الشاعر شاعراً إن لم يكسب نعته هذا في النبطيّة». والمكانة هذه إنّما عادت إلى المدارس الدينيّة القديمة لعلماء الدين الشيعة في جباع ومشغرة وجزّين، والتي كانت جميعاً تصبّ فيها. ولئن خبت حركة المدارس قليلاً، إلّا أنّها ما لبثت أن تجدّدت مع «المدرسة الحميديّة»، أو «أمّ المدارس»، التي أنشأها أحمد يوسف مكّي في أواخر القرن التاسع عشر، وهي التي استقطبت المواهب الشيعيّة، طلّاباً ومعلّمين، فكان في عدادهم سليمان الضاهر ومحمّد جابر آل صفا ومحمد رضا وعلي فحص ومحمّد علي الحوماني وغيرهم. وتلك المدارس كانت دينيّة أساساً إلّا أنّها علّمت الموادّ الأخرى التي تعلّمها المدارس الحديثة، ما مهّد له ورافقه تسلّم رضا الصلح، والد رياض، مديريّة ناحية النبطيّة في 1883، هو الذي كان يولي التعليم رعاية خاصّة ومميّزة. وفي 1909 تأسّست مجلّة «العرفان» التي اعتُبرت بداية التعبير الشيعيّ والجنوبيّ الحديث، أسّسها في صيدا أحمد عارف الزين، وكان معه الشيخان النبطانيّان أحمد رضا وسليمان الضاهر. ثمّ في الأربعينات، مع الاستقلال، أقيمت في النبطية مدرسة تكميليّة رسميّة عُرفت ب «مدرسة الجزائر» تولّى إدارتها أنطون الصايغ. وفي 1962، وإبّان تولّي كامل الأسعد وزارة التربية، أنشئت دار معلّمين وثانويّة، وكان ذلك من ضمن التوجّه العريض للعهد الشهابيّ. هكذا، كان للمثقّفين والمتعلّمين البارزين في الجنوب، كعلي الزين وأحمد جابر وجعفر شرف الدين ومحمّد سرحان، حضورهم الملحوظ في النشاط الثقافيّ لنبطيّة الستينات والسبعينات، وهو ما وازاه انتقال الشيخ عبد الحسين صادق، ذي الرصيد الدينيّ والأدبيّ، من بلدته الخيام إليها وإنشاؤه فيها، عام 1901، أوّل نادٍ حسينيّ في لبنان. مناخ التفاؤل على العموم كان لهذا التراكم الذي وفّره العِلمان الزمنيّ والدينيّ أن انعكس على أوضاع النساء، فعُرفت المرأة النبطانيّة بأنّها الأشدّ انفتاحاً بين الجنوبيّات. ولئن بقي النقاب والحجاب حاضرين بقوّة في الخمسينات، فذلك ما كان نقاباً وحجاباً اجتماعيّين بلا مضمون مذهبيّ أو دلالة سياسيّة، حتّى أنّ النساء المسيحيّات كنّ يرتدين غطاء على الرأس، قبل أن ينحسر هذا كلّه في الستينات والسبعينات. والتفاؤل بالمستقبل كانت له مصادر أخرى. ذاك أنّ التمثيل السياسيّ بدأ يخضع للتحديث، هو الآخر، في الستينات. فقد انقرض سياسيّاً آل الفضل، وكان آخرهم محمّد الفضل، النائب والوزير الذي عُدّ غريب الأطوار وبيروتيّاً أكثر منه نبطانيّاً، ومعه انتهت حزبيّة آل الفضل فورثها حلفاؤهم الأسعديّون الذين كانوا يتنافسون مع خصومهم العسيرانيّين. ذاك أنّ ملّاكي القرى الثلاثة، أحمد الأسعد وعادل عسيران ويوسف الزين، ظلّوا حتّى الستينات أصحاب الشعبيّة الأوسع هناك. صحيح أنّ نطاق القوّة الأسعديّة كان يتعدّى النبطيّة إلى باقي الجنوب الشيعيّ، إلّا أنّ اتّفاق اثنتين من هذه القوى كان يؤمّن لهما الانتصار على الثالثة في تلك المدينة وقضائها. وأهمّ من ذلك أنّ ملكيّة الأرض بذاتها كانت سبباً كافياً للزعامة لا يستدعي سبباً آخر يكمّله. غير أنّ النبطيّة، من خلال أبنائها الذين دخلوا الحلبة السياسيّة عقدذاك، تولّت مهمّة تحديث الزعامة والتمثيل. فقد كان من هؤلاء رفيق شاهين الذي درس العلوم السياسيّة في أوائل الستينات، ثمّ ابن خالته أنور الصبّاح الذي درس الهندسة، وأيضاً دكتور العلوم السياسيّة غالب شاهين. وإلى الثلاثة الذين تخرّجوا كلّهم في الولايات المتّحدة، حلّ المحامي عبداللطيف الزين، من قرية كفر رمّان المجاورة، محلّ والده يوسف. والنبطيّة، تقليديّاً، وكمثل الحاضرات المدينيّة، لا تؤتَمن على ولاء مضمون لعقيدة أو حزب. فهي ذات تقاليد تجاريّة عزّزتها، من جهة، الهجرة العريقة التي بدأت في الثلاثينات حاملةً بعض النبطانيّين إلى بلدان نائية كالمكسيك وكوبا، ومن جهة أخرى، «سوق الإثنين»، أهمّ أسواق الجنوب الشعبيّة، لا سيّما في اللحوم وما يتّصل بها من سلع. وهذا ما كان شهادة مبكرة على دور القطاع التجاريّ في حياة المدينة. لماذا النبطيّة؟ والحال أنّ النبطيّة تتميّز بوقوعها في قلب الجنوب، قريبة من صيدا والزهراني وغير بعيدة من صور وبنت جبيل، محاطةً ب28 قرية في قضائها، ما سهّل تحوّلها مركز استقطاب تجاريّ وثقافيّ لمنطقتها. بيد أنّها تتميّز أيضاً بكونها أرفع أقضية الجنوب الشيعيّ صفاء طائفيّاً. وهذان التوسّط والصفاء يفسّران اهتمام حزب الله المبكر بها، خصوصاً أنّها الحاضنة التقليديّة لاحتفالات عاشوراء التي تُقدّم على شكل مجالس عزاء منذ مئات السنين وإن اتّخذت شكلها الحاليّ في 1909، علماً أنّ رواية أخرى تردّ إحياءها في النبطيّة إلى إيرانيّ يُدعى بهجت ميرزا أتى بها في العشرينات من بلده. وكان ما أغنى رمزيّة عاشوراء بالمعنى الذي يستهوي الحزب أنّها شهدت بداية الانتفاضة على الإسرائيليّين بُعيد اجتياحهم في 1982. وهذا فضلاً عن دور الشيخ راغب حرب، وهو من جبشيت في قضاء النبطيّة، في المقاومة، وقرب الشيخ حسن ملك، من كفر رمّان، من الحزب، هو الآتي أصلاً من حزب الدعوة العراقيّ! هكذا، ومنذ التحرير في 2000، ارتسم ما يشبه المعادلة الجنوبيّة التي تقول إنّ مدينة صور لحركة أمل فيما النبطيّة لحزب الله. بيد أنّ الطريق المتعرّج إلى تلك المحطّة كان سابقاً على ولادة الحزب نفسه. * الحلقة الثانية: كيف نشأت القبضة الحديد؟