أهل التربية دائماً في قفص الاتهام، يراهم البعض مجرد منظرين، ولا يملكون مهارة قيادة السفينة التعليمية.. الدكتور عبدالعزيز العمر تربوي معتق، وصل إلى درجة الأستاذية أكاديمياً، وتحفل سيرته الذاتية بالكثير من العطاءات والإنجازات، عمل عميداً لكلية المعلمين لفترتين، حاول كثيراً أن يترك بصمة خلفه، ما زال يعتب على أهل القرار التربوي أنهم بعيدون عن الواقع، ولا يتلمسون المشورة كما يجب، وأنهم يملكون المال والقرار، ولكن بلا نتاج نلمسه ونفاخر به. ضيفنا تخصص في الفيزياء، لذا يبكي حرقة على واقع تدريس العلوم عندنا، ويرى أن إهمالنا فيه هو من جعلنا لا نتفوق عالمياً، يدعو إلى منح المعلم هيبته وحقوقه وجاذبية المهنة ليبدع فيها أكثر. الدكتور العمر هادئ في صوته، جريء في طرحه، يملك قلماً يزعج من في وزارة التربية، ويزيد من الهوة بينهم وبين كتّاب الرأي، يؤمن تماماً بأن هناك من يستنفع من وزارة التربية، لذا يسيطرون على مفاصلها، ولا يريدون أحداً معهم في ذلك، فيبعدون كل مختص، ويقربون من يوافق هواهم فقط. ضيفنا يملك خطة إنقاذ لتعليمنا تستحق أن ينظر فيها، ويدعو أن يكون التطوير حقاً للكل، وليس لفريق دون آخر، ويتمنى لو تمنح السلطة المثقف بعض الوجاهة، وتقرب المسافات بينهما، لنصل بالوطن لأعلى مراتبه. في ثنايا الحوار يسكن الكثير، ونحن نؤمن بأن هذا الحوار سيكون ورقة إصلاح تسعد الصحيفة بتقديمها لقرائها. { الرياض – خالد الباتلي النص في حياتك هل كان على هواك، أم أجبرك على الخروج من نسقه؟ - الخروج على النص أصبح للأسف عبارة يستخدمها ويوظفها البعض لحاجة في نفسه. وإذا ما تجاوزنا النصوص المقدسة والنصوص النبوية القطعية، فيمكن القول إن هناك من نجح وبامتياز في تكبيل وتقييد حركتنا - كمجتمع وكأفراد - بنصوص ليس لها أصل معروف وموثق. والأسوأ من ذلك أن هناك من الناس من لوى أعناق الحقائق والنصوص، لتتوافق مع هواه ومع فهمه القاصر، ليثبت أننا ارتكبنا مخالفة صريحة لأمر رباني أو توجيه نبوي، بل ورأى أن ذلك ينذر بحدوث خطر ماحق يعصف بالبلاد والعباد. تاريخنا للأسف حافل بنفي الآخرين واستبعادهم واتهامهم بناء على فهم مريض لبعض النصوص. الخروج عن القاعدة أي الخطوط المائلة تستهويك؟ وهل ترى الخروج عن القاعدة هو القاعدة الأجمل؟ - ليس صحيحاً على الإطلاق أن الخروج عن القاعدة هو القاعدة الأجمل، فالقاعدة متى ما كانت تفضي إلى إبداع وإنجاز إنساني أرقى من دون أن تهمش من دور ومشاركة أحد، فأهلاً بها، لكن القاعدة هنا يجب أن يؤطرها العقل والمنطق الإنساني الذي يحفظ حقوق الجميع، ويلزمهم بواجباتهم المناطة بهم تحت حراسة القانون. عندما يسرقك المنصب الإداري من قاعة الدرس من خسر؟ ومن كسب حينها؟ - عدما تكون في المنصب وتصب عصارة جهدك وتفكيرك في العمل من أجل أن يكون لدينا خريج تعليمي بمواصفات نوعية عالمية، فلا خاسر هنا، وعندما تكون في قاعة الدرس تشحن همم طلابك، وتخلق فيهم روح الأمل والعمل والتفاؤل، وتجعلهم أقدر على محاكمة الأمور بالمنطق والعقل والحجة، فلا خاسر هنا، هناك مديرو جامعات يجمعون الحسنيين: التدريس والعمل في المنصب. تتهم الرسائل الجامعية ببعدها عن الواقع، وبكونها من العلم للعلم من دون مساس بالمجتمع، ما رأيك؟ - هذا اتهام قد يكون صحيحاً، فنحن اليوم لدينا تخمة شديدة في الرسائل الجامعية، لكن المشكلة هنا تأتي من طرفين الأول هم الباحثون أنفسهم، فالبعض منهم لا يتناول مواضيع بحثية تعالج مشكلات حقيقية قائمة، وإذا تناولوها، فإنهم يعالجونها معالجة شكلية سطحية. أما الطرف الثاني في مشكلة الرسائل الجامعية، فهم صانعو القرار التعليمي التربوي، الذين ربما لم ينجحوا حتى الآن في الاستفادة من الرسائل العلمية والبحوث، أو يوظفوا ما يمكن من توصياتها لمصلحة التعليم. خصوصاً تلك الدراسات البحثية المسماة Meta-analysis studies، وهي تلك الدراسات التي تدمج العشرات من البحوث والدراسات في دراسة واحدة وتحلل نتائجها، لتخرج بنتائج أكثر دقة وموضوعية. نستطيع القول في المجمل إن أثر الدراسات والبحث العلمي في تطوير التعليم في بلادنا ما زال ضعيفاً ومتدنياً. في ضوء استحداث المناصب والمسميات التابعة لها، ما الفرق بين الكرسي العلمي والجمعيات العلمية؟ أم أن الأمر وفرة مالية؟ - الكرسي العلمي والجمعيات العلمية موجودان في كل المجتمعات العلمية العالمية، وكل منهما يصب في النهاية في مصلحة الرقي والتقدم العلمي لمؤسساتنا العلمية، خصوصاً إذا ما كانت تعمل في ظل رؤية جامعية تعليمية شاملة، لكن الخوف هو أن ينطبق عليها قول الشاعر «ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد». الأكاديمي المثقف كيف لك أن تقدم لنا وأنت الأكاديمي المثقف قوةً ثالثةً تربط بين المجتمع والسلطة والعرف؟ - للأسف في عالمنا العربي لا يزال دور المثقف عموماً، والمثقف الأكاديمي خصوصاً محدوداً في عملية الإصلاح، وذلك لأسباب تتعلق بالمثقف نفسه والسلطة، فالمثقف من جهته قد لا يملك الجرأة في الطرح، أو قد يكون لديه من الطموح الشخصي ما يجعله يغمض عينيه عن الخطأ وينسى رسالته. أما السلطة فهي من جانبها قد لا تثق بطرح المثقف، أو قد لا تريد الأخذ برأي المثقف لحسابات وتوازنات تقدرها هي. هل صحيح أن الأكاديمي ذا الرأي والفكر والاستقلالية موصدة في أبوابه المناصب والفرص؟ - هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، الاستقلال المطلق للمثقف الذي يصل إلى حد تجاهله واقع وطبيعة مجتمعة أمر قد لا يكون هو الأنسب في الرحلة الطويلة نحو التغيير والإصلاح. الإصلاح يجب أن يكون تدريجياً يقدم خلاله كل من المثقف والسلطة تنازلات مرحلية، من أجل الوصول بالوطن في النهاية إلى الهدف السامي الذي يتوجهون نحوه. ما مشكلة تدريس العلوم والرياضيات عندنا؟ ولم لا يشعر الطالب تجاهها بجاذبية؟ - سأوجز لك مشكلة تدريسنا للعلوم بالقول إننا نجحنا في تقديم العلوم لطلابنا كمادة ومحتوى ونتف من المعلومات التي يجب على طلابنا تخزينها في عقولهم من دون أن يدركوا معناها أو يمارسوها في حياتهم. ولكننا في المقابل فشلنا وبامتياز في أن نقدم العلوم لطلابنا على أنها عملية استقصاء وبحث واكتشاف الحقائق العلمية بطريقة تشابه الطريقة التي يمارسها العلماء، وبالمناسبة هذا هو السر الحقيقي الذي يفسر لك فشل أي نظام تعليمي أو تقدمه. أنت فيزيائي معتق لكنك تخطب ود التربية أكثر.. لماذا؟ - أخطب ود التربية لأنني وبحسب المؤشرات الظاهرة ما زلت قلقاً على قدرتها كوزارة للمستقبل على تحقيق مشاريعها الوطنية طالما بقي تعليم العلوم الطبيعية متدني المستوى في مدارسنا، وقلقي وهواجسي تلك يعززها تواضع مختبرات العلوم المدرسية كماً ونوعاً. ويؤكدها وجود معلمي علوم لا يفقهون أبجديات فن التدريس، إضافة إلى إقرارنا لمناهج علوم جديدة تم نقلها (ولا مشكلة هنا) وترجمتها وتقديمها للطلاب بطريقة عجيبة. يا أخي الكريم قمت أنا شخصياً بتنفيذ دراسة علمية لأتعرف من خلالها على جودة تدريسنا للعلوم، مستخدماً مقياساً عالمياً يقيس جودة التدريس، وكنت ألاحظ وأقوم بنفسي الدروس، وبعدما خرجت نتائج هذه الدراسة، كدت أصاب بحال من البكاء على واقع تعليمنا للعلوم، لذا سأستمر في مناجاة وخطب ود وزارة التربية. مرحلة كليات المعلمين إبان وزارة التربية هل جنت على تعليمنا؟ - مرحلة كليات المعلمين عالجت في وقتها مشكلة الكم التي كانت مشكلة حادة في ذلك الوقت، وعندما اقتربت مشكلة الكم في تعليمنا من الحل، بدأت كلية المعلمين تتجه نحو البحث والتطوير، ولكن ذلك جاء متأخراً، أعتقد أن قرار إلحاقها بمنظومة الجامعات كان صائباً وفي وقته. لماذا تتهم مخرجات كليات المعلمين بالضعف والدونية؟ - كما قلت لك عندما يكون همّك الأول هو حل مشكلة الكم، فلا بد أن يأتي ذلك الحل على حساب النوعية والجودة، نحن في العموم حريصون على أن يصل التعليم إلى كل مواطن في كل قرية وهجرة، ولكن ليس لدينا الحرص نفسه على أن يكون التعليم ذا جودة ونوعية عاليتين يستثمر أقصى ما يمتلكه المواطن من قدرات ومهارات واستعدادات. إعداد المعلم إعداد المعلم.. الكل يلقي بالتهم جزافاً وما من حل سريع ننقذ به حاله؟ - لا خوف علينا طالما كنا نرى أن هناك قصوراً في برنامج إعداد المعلم السعودي، وهذا يعني أننا نسير في الطريق الصحيح والطويل للإصلاح الذي ينطلق عادة من الاعتراف بوجود المشكلة. الكل يشيد بمخرجات معاهد المعلمين وينتقد مخرجات كليات التربية والمعلمين.. أين الخلل؟ - جودة مخرجات مؤسساتنا التعليمية على اختلافها محكومة عموماً بثقافة مجتمعية واحدة، وبنظم مركزية بيروقراطية واحدة، وبناء على ذلك فجودة مخرجات مؤسساتنا التعليمية قد لا تختلف عن بعضها كثيراً كونها تغرف من ثقافة واحدة علقت بها بعض الشوائب. ألا تشعر بأن أي طالب يستطيع أن يكون معلماً هذا جناية على التعليم؟ - نعم هذا صحيح، والسبب أننا جعلنا جدار التربية والتعليم قصيراً إلى الحد الذي أغرى الآخرين بالقفز من فوقه، دعونا نرفع معايير الالتحاق بمهنة التعليم، ودعونا نحسن من بيئة عمل المعلمين، ودعونا نجعل مهنة التعليم جاذبة اجتماعياً واقتصادياً لكل المبدعين (مثلما فعلت فنلندا)، وعندها سترون تعليماً مختلفاً. تعدد أنواع التعليم الثانوي ألا يتسبب في ضعف الهوية له؟ - أبداً ليس صحيحاً، تنوع برامج وهياكل التعليم الثانوي يثري تعليمنا ويعزز برامج التنمية إلى حد كبير، دعني أقول لك وبكل ثقة إننا بقدر ما نوحد ونصب تعليمنا الثانوي في قالب واحد، بقدر ما يوغل تعليمنا في التخلف. إلغاء الثانوية العامة هل خدم تعليمنا بشيء؟ - نحن يا سيدي لم نلغ الثانوية العامة، نحن فقط أوقفنا المهزلة التي يتم بها تقويم جودة مخرج تعليمنا العام، كما أننا توقفنا عن قيامنا بخداع جامعاتنا بطالب هزيل المعرفة منتفخ الدرجات. اختبارات القياس هل ضمنت العدل للطالب قبل الجامعة؟ - عندما طبقنا اختبارات القياس لم نصبح أكثر مهنية في اختيار الطلاب الأنسب للجامعات فحسب، بل وأصبحنا أكثر عدلاً مع طلابنا. كليات المعلمين كانت النواة لجامعات كثيرة إلا في الرياض على رغم ضخامة عددها، لماذا رضيتم بالانضمام لجامعة ولم تستقلوا بجامعة للمعلمين؟ - أنا لا أحب الأسئلة في السياسة، وهذا الموضوع لست من يفتي فيه! أنت عضو في مجلس منطقة الرياض التعليمي، كيف ترى نتاج هذا المجلس؟ - هذا سؤال مهم ومحوري يجب توجيهه إلى منظري سياسات عمل هذا المجلس، وبالمناسبة أنا أحلم بأن تؤدي مجالس المناطق دوراً أفضل في تطوير التعليم في مناطقها، بدلاً من التركيز على إمكان فتح مدرسة هنا أو مدرسة هناك من دون تقليل من هذا الأمر. اللجنة العليا لسياسة التعليم عندنا، لماذا جمدت ولم نعد نسمع لها خبراً؟ - الحقيقة أمر مقلق للتربويين أن تمضي كل هذه الفترة من دون تكون للتعليم لدينا مرجعية سياسية عليا، دعونا ننتظر، فلعل ما هو مقبل يكون أفضل. غياب هذه اللجنة قد يفتح المجال واسعاً أمام اجتهادات الأفراد، لا يمكن لفرد مهما كانت قدراته أن يقوم بعمل لجنة وطنية. هيئة تقويم التعليم المنشأة أخيراً هل تراها ستصنع الفارق في تعليمنا؟ - نعم ستصنع هذه الهيئة الفارق، ولكن بشرط أن نمارس أرقى مهنية ممكنة في اختيار أعضائها، وأن نضمن تنوع خلفياتهم، ونمنحها مساحة كافية لتعمل بعيداً عن الضغوط والبيروقراطية. تطوير التعليم كمتابع للشأن التربوي، هل تشعر بأن مشروع تطوير التعليم في المسار الصحيح؟ - مشروع تطوير تعليمنا يبدو أنه يسير في المسار الصحيح، ولكن معدل سيره الحالي يكاد يكون سلحفاتياً، أنا وكثير ممن أعرف من زملائي التربويين في الجامعات لا نعلم ماذا يعد في مطبخ هذا المشروع التعليمي، ربما هذا قصور منا أو قصور منهم. خصخصة التعليم عندنا ما مدى فاعليتها التربوية والتعليمية؟ - نحن نعلم يقيناً أنه مهما بلغت قدرات الحكومة المادية، فلن تنجح بمفردها في تقديم التعليم لكل مواطن وبالجودة المطلوبة، مطلوب منح المؤسسات التعليمية الخاصة مساحة أكبر، مع ضرورة الحفاظ على معايير جودة برامجها التعليمية والتقويم الدوري لأدائها. لو طلب منك الإشراف على إطلاق برنامج جديد لتطوير المجتمع ماذا ستفعل؟ - لو تفتح عمل الشيطان كما يقولون، والتربويون ليسوا في حاجة لشياطين تفتح عليهم! كيف يخرج الجيل من الارتباكات التي تسببها له تناقضات الطرح من المؤسسات ذات الصوت الأعلى في المجتمع؟ - في التعليم لا يفترض أن يكون هناك صوت أعلى لأي طرف كائناً من كان ذلك الطرف، وعلى السلطة التعليمية أن تمنح الجميع حق المشاركة المتكافئة في الطرح التربوي، وفي النهاية لن يصح إلا الصحيح. ما الأسباب التي منحت مجتمعنا تطرفاً نحو المرأة.. إن يميناً أو يساراً؟ - المرأة تعتبر جزءاً أصيلاً في أي مشروع تطويري حضاري يتم طرحه، وأي تجاهل لدورها أو محاولة تحجيمه محاولة إسقاط لذلك المشروع، المرأة قد تكون ضحية لبعض الرؤى المتشددة التي للأسف وجدت مساحة كبيرة في منظومتنا المجتمعية. هل من خوف على مجتمعنا من الاختلاط؟ وهل المشكلة في الفكرة، أم في الممارسة؟ - أعتقد أن الاختلاط يجب ألا يكون مجرد (أقول مجرد) عذر لحرمان المرأة من حقوقها وتعطيل مشاركتها في مشاريع التنمية. لدينا إن شاء الله من العقل والحكمة والمنطق ما يجعلنا نضع الاختلاط في إطاره الصحيح وألا نحمله أكثر مما يحتمل، ومن دون أن نترك للآراء المتطرفة الفرصة لتحجيم دور المرأة في التنمية. لك أكثر من 10 أعوام في كتابة المقالات كيف ترى التفاعل والأثر معها؟ - أتلقى أحياناً اتصالاً شخصياً من بعض أصحاب القرار ومن بعض الزملاء التربويين، لكن ذلك ليس هو الهدف. في ظني أن هناك أزمة بين كتّاب الرأي التربوي والسلطة التعليمية، فالكتّاب يرون أن الوزارة تتجاهل طرحهم، وأحياناً تتهمهم ب»التغرض» والطموح الشخصي والبحث عن الشهرة، أما الوزارة فترى من جهتها أنهم منظرون يغردون خارج السرب من دون أن يقدموا طرحاً حقيقياً قابلاً للتنفيذ. أنا وزملائي سنستمر في طرح ما نعتقد أنه صحيح، انطلاقاً من حسنا الوطني (من دون مزايدة) ومن اطلاعنا على التجارب التعليمية العالمية الناجحة. وللوزارة أن تأخذ ما تشاء وتدع ما تشاء، فنحن في النهاية أصحاب رأي ولسنا أصحاب قرار. عندما تسمع عن تعيين وزير تربية جديد هل تغبطه أم تشفق عليه؟ - بل أشفق عليه، لأنني أعلم يقيناً أنه سيكتشف عاجلاً أو آجلاً أن هناك مقاومة قوية وعنيفة من الحرس القديم أو من البيروقراطيين أو من أصحاب المصالح الشخصية أو من المتشددين الذين يريدون فرض وصايتهم على التعليم. كيف ترى واقع مناهجنا التعليمية؟ - بداية يجب القول إننا قمنا بمحاولات عدة لتطوير المناهج في بلادنا، إلا أن نتائج هذه المحاولات بقيت في ظني دون الطموح بكثير، معظم البحوث والرسائل الجامعية ومرئيات الخبراء ترى أن مناهجنا الحالية ما زالت عاجزة وقاصرة عن إنتاج مخرج تعليمي يمتلك المهارة والمعرفة العلمية التي تجعله قادراً على مستجدات الحياة، وقادراً على كشف زيف المعرفة من صدقها، وذلك من خلال ممارسته التفكير الناقد والتفكير المنطقي العقلاني، وقادراً على تحمل مسؤولياته الاجتماعية والأخلاقية. وفي ظني أن إصلاح المناهج يجب أن يبدأ في تشكيل الفريق الذي يفترض أن يدير عملية إصلاح وتطوير المناهج في وزارة التربية، هذا الفريق هو الذي يختار من يؤلف المناهج، وهو من يختار من يحكم المناهج ومن يراجعها وفق أطر ومرجعيات حددها لنفسه. أنا أستاذ وباحث جامعي متخصص في المناهج أمضيت في وزارة التربية ما يقارب 30 عاماً، وأستطيع القول وبدرجة عالية من الثقة إنه لم يتح لي خلال هذه الفترة الطويلة أن أشارك في تطوير المناهج وإصلاحها، في المقابل تمت دعوتي من جامعات عالمية وعربية لإلقاء محاضرات تربوية. إذا كنا جادين في تطوير مناهجنا، يجب أن نتيح المجال للجميع لكي يشاركوا في إصلاح وتطوير المناهج. تطوير المناهج لو طلب منك أن تتولى مسؤولية تطوير المناهج ماذا ستقدم؟ - أولاً: سأعمل على إعداد فريق مركزي من المحترفين التربويين القادرين على إدارة وقيادة إصلاح وتطوير المناهج وفق رؤية تربوية وطنية شاملة، وثانياً: سأتطلع إلى اختصار حجم مناهجنا الحالية إلى النصف، تصور أن عدد المقررات التي يدرسها طالبنا الثانوي يكاد يعادل ثلاثة أضعاف التي يدرسها الطالب الأميركي أو الأوروبي. وثالثاً: سأحذف من مناهجنا كل ما لا يرى الطالب فيه علاقة بحياته، وكل ما لا يجعله قادراً على فهم وتفسير ما يحيط به من ظواهر، ورابعاً: سأفتح المجال لكل المعنيين بالتعليم stakeholder ليشاركوا بالرأي في إعداد وتطوير المناهج، وخامساً: سأتحاشى أن يكون تطوير المناهج مظهرياً وسطحياً فقط يتوهم معه الناس أن تطويراً نوعياً في المناهج قد تحقق. وفوق ذلك كله يجب ألا نطور المناهج ونقدمها للطلاب في معزل من الأدوات والتجهيزات العلمية المرافقة التي تقرب المفاهيم لأذهانهم وتشغلهم ذهنياً بما يتعلمونه. ما الدور المتوقع من المناهج؟ - تكون المناهج - أي مناهج - في حالها المثالية عندما تنجح في إكساب الطالب المهارات الآتية: قدرة الطالب على ممارسة التفكير الناقد بما يجعله قادراً على فرز الغث من السمين. عندئذ لن يسهل استغفال الطالب بخرافات وأساطير، وتعلم مهارات التعاون والعمل مع فريق، وتعلم مهارات التواصل مع الآخرين، إلى جانب اكتساب مهارات التعلم مدى الحياة، وتعلم مهارات الاعتماد على الذات، فضلاً عن تعلم مهارات التقصي والبحث عن حل أية مشكلة، علاوة على تعلم التفكير في بعد عالمي كوني. واقعنا التعليمي في شكل عام كيف ترى واقعنا التعليمي؟ وكيف ترى مستقبلنا التعليمي؟ - واقعنا التعليمي اليوم غير مقبول على الإطلاق، خصوصاً أننا بلد نخصص لتعليمنا من المال ما يسيل له لعاب أي نظام تعليمي في العالم. وهناك مؤشرات مقلقة تبين أننا لم نحقق بعد إنجازات تعليمية نوعية. فمثلاً تكاد تجمع البحوث والدراسات الجامعية على تواضع مستوى تعليمنا. ومن جهة أخرى عندما شاركنا في مسابقات تعليمية إقليمية ودولية كانت النتائج مخيبة للآمال، كما يتحمل التعليم اليوم جزءاً من مشكلة البطالة، فهو مسؤول عن عدم إكساب الطلاب قيم العمل والمهارات التي يحتاجونها ليشاركوا بفاعلية في سوق العمل، والتعليم مسؤول جزئياً كذلك عما يرتكبه الطلاب من فوضى مرورية وتجاوز للنظام والذوق العام. اسألوا أساتذة جامعاتنا عن هزالة مستوى خريجي التعليم العام، فهم شهود على تدني مخرجات تعليمنا العام، إذ ذكر مدير جامعة الملك سعود السابق أن معدل التسرب من الجامعة وصل إلى 30 في المئة، وما كان هذا ليحدث لو أن مخرجات تعليمنا لم تكن بذلك الضعف. أما مستقبل التعليم فأراه بمشيئة الله واعداً، لعدة أسباب أهمها: وجود الإرادة السياسية لتطوير التعليم، فالتعليم حالياً يلقى دعماً غير محدود من قائد مسيرتنا الملك عبدالله بن عبدالعزيز، مع وجود عشرات الآلاف من المبتعثين في نخب التخصصات في نخب الجامعات، هؤلاء المبتعثون سيشكلون عمقاً استراتيجياً لتطوير تعليمنا، فضلاً عن وجود الوفرة المادية التي يجب توظيفها بأفضل كفاءة ممكنة لمصلحة تطوير التعليم، فالمال ليس موجوداً دائماً، إضافة إلى وجود العديد من الكفاءات الوطنية عالية التأهيل التي تنتظر فرصة المشاركة، بجانب تشكيل هيئة مستقلة معنية بتقويم التعليم.