مع أن الشاعر الأميركي الكبير عزرا باوند كتب دواوين شعرية مهمة قبل ديوان «الأناشيد»، لكن هذا العمل يختصر وحده مشروعَه الشعري الفذ، ليس فقط لأنه شَغَله مدةَ خمسة عقود من الزمن، بل أيضاً لتمكّنه فيه من مصالحة الأدبي والسياسي، القصيدة والتاريخ، عالَم الماوراء وعالَم البشر، وبالتالي من إعادة النظر في الكتابة الشعرية وتجديدها شكلاً ومضموناً، وهذا بالتأكيد ما يفسّر اهتمام شعراء فرنسيين كبار، مثل جاك دارّاس وإيف دي مانو ودوني روش وفيليب ميكرياموس، بترجمة هذا العمل، وقيام دار «فلاماريون» الباريسية بإصدار هذه الترجمة للمرة الثالثة على التوالي. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن الغموض ما زال يلفّ اختيار باوند الملحمةَ كنوعٍ مفضّل لإبداعه الشعري، في فترةٍ كانت الثورات الحداثية تعصف بالشعر المكتوب باللغة الإنكليزية، وذلك لأن هذا الخيار يبدو مناقضاً في ظاهره للاندفاع نحو تجديد الأشكال الشعرية، الذي شارك فيه الشاعر في بداياته وبرع في كشفه لدى معاصريه. لكن، على خلاف معظم الشعراء الأوروبيين آنذاك، الذين أعلنوا هزيمة الأدب وانهيار طُرُق النظم الشعري القديمة وفرضوا كتابةً شعرية حرّة من أي قاعدة، تبنّى باوند في كتابته موقفاً خاصاً يجعل من ديوان «الأناشيد» عملاً لا يتناقض مع أعماله الشعرية السابقة، بل يشكّل امتداداً لها وتطبيقاً راديكالياً لمنهجها، وفي الوقت ذاته، يسجّل تقدماً حاسماً، لأن خيار الملحمة على حساب الغنائية التي تميّز قصائده القصيرة، يفترض احترام الأبعاد الخاصة للقصيدة الطويلة، ويفترض موضوعاً غير حميمي يرتكز على معطيات تاريخية وليس على تعرّجات النفْس. يقوم مشروع «الأناشيد» على استخلاص المراحل الجوهرية للمغامرة البشرية وكشف أسمى تطوّراتها الفنية والسياسية وفضح القوى الظلامية التي تعرقل سيرها على المستوى الثقافي والعقائدي والمالي، والهدف من ذلك تسريع انبثاق نهضةٍ جديدة على يد أميركا هذه المرة. وفي بعض جوانبه، يتميّز هذا المشروع ببُعدٍ تعليمي غير معهود في الشعر الأنغلو-ساكسوني عند بداية القرن الماضي، خصوصاً وأن باوند بارتكازه على نماذج تاريخية متواترة (اليونان، الصين الكونفوشية، النهضة الإيطالية) وضع نفسه بوضوح في خط تقليدٍ سعى إلى إعادة تحديد نطاقه وتوسيعه من دون التشكيك بضرورته في متابعة المسار الحداثي، وهو ما يعكس طموحه غير الأدبي حصراً، والذي يتجلى بعدم فصله القصيدة كأداة عن المجتمع الذي حاول إصلاحه. هو شعرٌ نضالي إذاً، لكن بطريقةٍ غريبة، لأن «الأناشيد» وإن تحلّت ببُعدٍ عقائدي، غير أنها لا تنتمي إلى الأدب الدعائي، لعدم اكتفائها برصف التوجيهات والاستشهادات. وإذ تقترب إلى حدٍّ ما من ميدان التاريخ الإخباري (chronique)، لسردها فصولاً من التاريخ البشري، لكن هذا الأخير يحضر بشكلٍ مقطّع وغامض ومن دون أي ترتيب تسلسلي. وفي الواقع، شيّد باوند «الأناشيد» وفقاً لتوترٍ كبير بين ملاحقة أسلوبٍ قديم والبحث عن شكلٍ جديد قادر على تجسيد الانقلاب الشعري والسياسي الذي سعى إلى فرضه، وبعبارةٍ أخرى: هو حاول نبش ما لا يزال حياً ومعاصراً في التقليد، أو كشْفَ «الجديد» المستمر في «القديم»، بدلاً من التخلص من القوانين الماضية ومن الاعتقاد بإمكان إنتاج نص جديد من العدم، واختطف في هذا السياق النوعَ الملحمي وحوّله عن سكّته التقليدية، لعدم اكتراثه فيه بسرد فصلٍ من ماضٍ أسطوري، بل بجمع أجزاء مبعثرة من سردية خفية كامنة، وتقديمها كاستعارة لقصة البشر تختصر بحثهم داخل الزمن والجغرافيا، ولذلك صقل أداةً أو مفهوماً «نظرياً» لن يلبث أن يحوّل بعمقٍ مقاربته للقصيدة ولعملية خطِّها على الورق. وفعلاً، شكّل باوند «الأناشيد» وفقاً لتقنية المونتاج، بالمعنى السينمائي للكلمة، أي بلصق بعض أجزاء قصائد أو نصوص ببعض، وفقاً لنظام أصداء وانزلاقات ذاتية تعزز الموضوع العام على حساب مقروئية التفاصيل. وفي هذا السياق، يمكن تشبيه كل نشيد برمز فكرة (idéogramme) تتحرّر من عناصره مجموعةً الدلالةُ والإضاءة والوحدة المطلوبة، وهذا المنهج هو الذي يمنح القصيدة طابعها المجزّأ وهذا التقطّع في عملية السرد الذي يعاكس السيرورة الملحمية. منهجٌ يخضع في بنيته لمبدأ التماثل (analogie) القائم على التقريب الحدسي لعناصر متغايرة يربطها تناغُمٌ خفي. ولكن، بخلاف نظرية الصورة السورّيالية، التي ترتكز على تقريب واقعَين متباعدَين بهدف بلوغ صور شعرية جديدة، عمد باوند إلى إشراك أحداثٍ ومراجع وأقوالٍ من مصادر مختلفة يخلّف احتكاكُها شرارةً جديدة تلقي على كل منها ضوءاً غير متوقَّع. ويختلف هذا المنهج أيضاً عن تقنية الملصق، لأنه لا مكان فيه للمصادفة (موضوعية كانت أم لا) أو للاوعي، ولأن مسعى باوند الشعري يرتكز على الإرادة والفكر اليقظ، وإن لم يرفض الجانب غير المنطقي الفاعل في أي عملية ابتكار. لكن فرادة «الأناشيد» لا يمكن اختصارها بهذا المنهج، بل تكمن أيضاً في طريقة خطِّها على الورق، التي تجعل منها شعراً بصرياً تنتقل إكراهات النظم فيه إلى الأرضية التيبوغرافية، ولا تتوزع الأبيات والمساحات البيضاء والمقاطع فيه -كما في الماضي- وفقاً لقواعد العروض، بل تخضع لتشكيلٍ شبه تصويري تشكّل وحدة الصفحة فيه لوحةً خلفية، ما يخلق فضاء كتابةٍ جديد بشكلٍ جذري. تبقى ميزة أخيرة مهمة ومبلبلة في هذه «الأناشيد»، وهي أنها تتألف بشكلٍ رئيس من نصوصٍ قديمة لم يكتبها باوند بل اقتطعها من مصادر مختلفة وأجرى عليها بعض التعديلات والتشويهات قبل أن يعمد إلى تنضيدها، ومن هذه المصادر: ملحمة هوميروس «الأوديسة»، نشيد غيلدو كافالكانتي «امرأة لي من فضلك»، مذكرات رؤساء الولاياتالمتحدة الأوائل، كتاب أوفيد «التحولات»، رسائل هجاء لعلماء اقتصاد هامشيين، أبيات لشكسبير أو فييون، أقوال منسوبة إلى كونفوشيوس، مقاطع من «النشيد الكبير» البروفانسي، عقود تأسيس بنوك هولندية وإيطالية، تاريخ الصين لليسوعي جوزيف دو مايا، ولكن أيضاً رسالة قدح لموزار، قولٌ مرير لجان كوكتو، تعليق مضحك لموسوليني... إنها خطابات مختلفة لا تتعايش فقط داخل الديوان بل تتوحد بشكلٍ مذهل خلف ما يمكن أن نسمّيه صوت الشاعر، كما لو أنه كان على باوند أن يضطلع بأصواتٍ عدة مختلفة لبلوغ نصه والسماح لنفسه بتوقيعه، مختصِراً في ذلك مهمته بإعادة صياغة مقاطع وأجزاء ما تزال حية من إرثٍ قديم؛ كما لو أن صوت الحاضر ينبثق بشكلٍ أفضل من الكتابة الأخرى (التي تنتمي إلى الماضي أو إلى جغرافيا مختلفة) أو من بعثرته داخل كلمة فسيحة ومتعددة إلى ما لا نهاية، وهو ما يذكّرنا بقول بودلير الآتي:«أنا كل شيء، كل شيء أنا».