حين تحدثنا عن تكسير سورية («الحياة» 12/6/2012) أردنا أن نبرز المفارقة بين أحد الشعارات الأساسية للثورة السورية: «الشعب السوري واحد»، الذي يعبر عن وعي شابات سورية وشبابها، وما يتوفرن ويتوفرون عليه من حيوية ودينامية وذهنية منفتحة على العالم وعلى المستقبل، وبين قوى محافظة ذات وعي أيديولوجي متخشب، قوامه ماضويات ومستقبليات، لا تستطيع أن تدرك معنى الواحد إلا في ضوء علم الحساب البسيط، المناسب معرفياً وزمنياً للعصبية وقوة الشوكة، ووهم المركزية الإثنية/المذهبية، أو «النرجسية الجماعية»، نعني الوعي الأيديولوجي المتمحور على الملل والنحل، وثنوية الأكثرية والأقليات، والتراتب الهرمي، وهو وعي جيلنا وجيل معلمينا. في 16 آذار (مارس) 2012، أي بمناسبة مرور سنة على قيامة الثورة، رفع شباب وشابات من الكرد السوريين، في مدينة عامودة، لافتة مثيرة للنظر العقلي، تقول: «صار عمر الشعب سنة»، أي إن الثورة السورية السلمية دشنت مرحلة تشكُّل شعب سوري، ومجتمع مدني سوري، أو أمة سورية، وجمهورية سورية. هذا الوعي المتقدم على وعي النخبة التقليدية، من مثقفين وسياسيين، هو ما استهدفته السلطة بالقتل والاعتقال والتهجير، حتى خلت الساحة أو كادت تخلو إلا من معارضة («سلمية» ومسلحة) على شاكلة السلطة ذاتها، تفهم لغة السلطة، وتتحدث باللغة نفسها. وهاتان السلطة والمعارضة، اللتان انبنى وعيهما على ثنوية الأكثرية والأقليات تدفعان وتندفعان إلى تقسيم سورية واقتسامها، على نحو يتناسب مع تكسيرها. الذين رفعوا شعار «الشعب السوري واحد»، ولافتة «صار عمر الشعب سنة» كانوا يدركون، بوجه عام، تعدد المرجعيات الثقافية في المجتمع السوري إدراكاً واضحاً؛ ويدركون أن وحدة الشعب لا تنفي هذه المرجعيات، وليس بوسعها أن تفعل ذلك، من دون أن تنفي ذاتها، بل يمكن أن تغنيها وتغتني بها. هذا الوعي الفتي الذي اتحد فيه، لأول مرة، اللوغوس والإيروس، أي العقل والعاطفة والوجدان والشعور، لدى الشابات والشباب، اللاتي تصدين والذين تصدوا ل «غزو» الفضاء العام واحتلاله، بما هو فضاؤهم الذي نبذوا منه، أثار الخوف والهلع لدى الفئات المحافظة في السلطة والمعارضة، على السواء؛ فبادرت الأولى إلى قمعه والثانية إلى احتوائه، الأولى عملت وتعمل على قتله مادياً، بجميع أسلحتها الفتاكة وأساليبها الهمجية، والثانية عملت وتعمل على قتله معنوياً بسمومها الأيديولوجية، البعثية أو الإحيائية، السلفية والأصولية والجهادية، الإثنية منها والمذهبية. بعد النجاح النسبي في رضّ المشروع الوطني، أو محاولة اغتيال جنين الدولة الوطنية مرة أخرى (المرة الأولى كانت عام 1958)، كان يمكن أن تتوصل السلطة والمعارضة إلى تسوية ما، إلى هدنة اجتماعية سياسية جديدة. ولكن الشرط الضروري للتسوية/الهدنة، وهو التوافق على منظومة رمزية مشتركة بين المرجعيات المختلفة، لم يعد متاحاً، لعدة أسباب، من أهمها تفكك التركيبة الرمزية (التلفيقية) القومية الاشتراكية، العربية الإسلامية، التي سيطرت على الفضاء العام، وهيمنت على سائر النظرات المختلفة عنها والمناهضة لها، وأنتجت بمرور الزمن تفاعلات وظيفية تستوعب الهويات المختلفة والمناهضة، ما دامت هذه الأخيرة تحترمها، وفق قاعدة الاحترام من جانب واحد، ولا تقوم بغزو سافر للفضاء العام، ولا تبدي نزوعاً أو تطلعاً إلى ذلك. وعدم نشوء تركيبة رمزية جديدة وحديثة، وطنية ديموقراطية، لصعوبة هضم المشروع الوطني الذي حملته الثورة واستشعار مخاطره، سواء من قبل القوى المحافظة أو من قبل القوى الإقليمية والدولية الفاعلة. فاندلعت الحرب، وأخذت كل واحدة من الجماعات أو الطوائف الإثنية والمذهبية تتكور حول نفسها، وتحيي مرجعيتها الثقافية، وأوهامها النرجسية وتعززها، وتحيي معها مخاوفها وآمالها، في مناخ إقليمي ودولي موات للحرب، ومفتوح على إعادة إنتاج العنصرية في غير مكان من العالم، بما في ذلك البلدان المتقدمة. الحرب شر مطلق؛ ليس في سورية اليوم شر مطلق، بل وضع تختلط فيه الثورة والحرب، الثورة المُحْتَجَزَة والحرب الدائرة، وهذه أظهر، في المدى القريب. ولكن لكل حرب نهاية ومآل، فإلى أين ستأخذنا هذه الحرب إذا ما ظلت الثورة محتجزة؟ الاحتمالات في مثل هذه الحال ليست كثيرة؛ فإما أن ينتصر طرف على طرف ويملي عليه شروط الاستسلام وقواعد السلامة، ويباشر عمليات الثأر والانتقام، لتثبيت نتائج الحرب، وإعادة تنسيق القوى على أساسها. وإما أن تتوصل القوى الفاعلة في الحرب إلى تسوية، قد تكون هدنة تقصر مدتها أو تطول، وقد تكون، وحبذا أن تكون تسوية تاريخية أو «صفقة تاريخية» يربح فيها الجميع مستقبلاً، وليس من أساس يمكن أن تقوم عليه مثل هذه التسوية التاريخية أو الصفقة التاريخية سوى المشروع الوطني، ما يعني إعادة الاعتبار للثورة وإطلاق قواها واستئنافها سلماً. التسوية التاريخية تبدو بعيدة المنال بسبب تعنت السلطة وحلفائها، وولوغهم جميعاً في الدم السوري الذي يستمطر الدم. والتسوية «السياسية» التي تطرحها القوى الخارجية، وتتبناها روسيا وإيران، أقرب إلى هدنة منها إلى صفقة تاريخية، فإذا ما اتفقت عليها القوى المعنية بها سنكون بإزاء هدنة بشروط الوضع القائم ونسبة القوى الإقليمية والدولية، والهدنة بالتعريف سلم بين حربين. أما استمرار الحرب إلى ما بعد حزيران (يونيو) 2014، فقد ينتهي إلى تقسيم سورية واقتسامها، ولا ندري إذا كان الوقت قد حان لإعادة رسم الخرائط، ما دامت السلطة والمعارضة التقليدية، السلمية والمقاتلة، قد اتفقتا على تسليم مفتاح سورية للقوى الخارجية، وجعلتا منها «مسألة شرقية» جديدة محمولة على «حماية الأقليات». هنا يغدو تنظيم «القاعدة» و«السلفية الجهادية» و«الإخوان المسلمون» و«حزب الله» والجماعات التي على شاكلتها، بما في ذلك جماعات «علمانية» جزءاً من عدة الشغل وحاجة موضوعية للدول الكبرى وإسرائيل، أي للإمبريالية والصهيونية، بلغة هذه العدة. كنا نجادل في إمكانية تقسيم سورية، ونستبعدها كلياً، ونعترف بإمكانية تحقق هذا الاحتمال، لكي لا ننفي فكرة الاحتمال فقط، لكي لا ننفي منطق الزهر أو الحظ، أما وقد صرح رئيس الجمهورية أنه «اذا حصل في سورية اضطراب وصل الى مرحلة التقسيم أو سيطرة القوى الإرهابية في سورية أو كلا الحالتين، فلا بد (من) أن ينتقل هذا الوضع مباشرة الى الدول المجاورة أولاً، وبعدها بتأثير الدومينو إلى دول ربما بعيدة في الشرق الاوسط»، («الحياة» 6/4/2013)، فقد أضحى التقسيم احتمالاً بين احتمالات أخرى، وأضحى التفكير فيه يتعدى مستوى الجدال النظري. لقد كان خيار الحرب ولا يزال الخيار الوحيد للسلطة، فلم تستجب لأي مبادرة لتسوية سياسية، إلا على سبيل المناورة وكسب الوقت للحسم العسكري، فهل سيستكمل تكسير سورية بتقسيمها واقتسامها؟ الجواب برسم السوريين جميعاً. * كاتب سوري