لم يكن مشهد حصار مدينة الإنتاج الإعلامي، أو الهجوم على مقر جماعة الإخوان في المقطم، وسقوط مئات المصابين وعشرات القتلى، في عنف غير مسبوق ومتبادل بين جميع القوى السياسية في مصر في الأسابيع الماضية، إلا نتاج أسباب متنوعة أهمها ظهور جماعات عنف تقليدية وغير تقليدية، منها الإسلامية وغير الإسلامية، والتي أقل ما توصف به أنها خلايا لتنظيمات تعتمد على الانتقائية في عددها، ولا تعتمد على الكثرة، وفق ما اتضح في تنظيم مدينة نصر، أو المقبوض عليهم في تفجيرات سيناء، الذين بدا أن غالبية عناصرهم غير مشهورين بالمرة، أو مثل تنظيم «البلاك بلوك» الذي جاء أعضاؤه من خلفية شبابية علمانية، وطبقاً لهذا التصور، أصبحوا خطراً وأوسع انتشاراً، لأن خلاياهم ومجموعاتهم لم تعد تحتاج إلى تخطيط أو قرار مركزي لممارسة العنف، وفق اعتقاداتهم. في أكبر الأمثلة على مجموعات العنف غير التقليدية ظهرت جماعة «البلاك بلوك» بوضوح في الذكرى الثانية لثورة 25 كانون الثاني (يناير)، واتهمت بحرق مقرات الإخوان، وهي ليست لديها أطر فكرية وأيديولوجية واضحة، لكنها تعمل في إطار منظم، وتتشكل من مجموعات لكل منها قائد. وهناك قائد عام للتنسيق مع المجموعات الأخرى التي يتخفى أفرادها أثناء أعمال العنف خلف قناع أسود، ولهم لغة مشفرة خاصة بهم، الأمر الذي دفع البعض إلى الدعوة إلى إصدار تشريع يمنع تغطية الوجوه في التظاهرات. على الخطى نفسها ظهرت مجموعة «البلاك تيما» التي اتهم البعض الأقباط بدعمها، وفي مقابل ذلك ظهرت «وايت بلوك إسلامي» التي قال منشئوها إنها لن تلجأ إلى العنف، لكنها سترد على المجموعات التي تخرب المنشآت. وشكلت مجموعات «الألتراس الرياضية»، وهي روابط تشجيع الأندية المصرية، نموذجاً لمجموعات العنف غير التقليدية، منذ ظهورها قبل الثورة عام 2007، ودعمها من جانب وزارة الداخلية المصرية، وحتى الثورة ومشاركتهم في أيامها الأولى لحماية الميدان وأسر الشهداء والمصابين، والضغط لمحاكمة الرئيس السابق، ثم المشاركة في مليونية 9 أيلول (سبتمبر) 2011 التي انتهت باقتحام السفارة الإسرائيلية. ومنذ مجزرة ملعب بورسعيد، التي راح ضحيتها 74 شخصاً، تصاعد النشاط السياسي للألتراس، وبخاصة ألتراس النادي الأهلي، إذ راح أفراده ينظمون احتجاجات دورية للمطالبة بالقصاص، ولجأوا إلى طرق عنف غير تقليدية، كقطع الطرق، وتعطيل المترو، والتهديد بالانتقام، وقابلهم ألتراس النادي المصري الذين هجموا على سجن بورسعيد في أحداث راح ضحيتها أكثر من 50 قتيلاً. أما الجماعات التي حملت في ظهورها شكلاً إسلامياً، فمنها «طلاب الشريعة»، وقد انبثقت من الجماعات التكفيرية التقليدية القديمة، مثل «التوقف والتبين»، و «القطبيين»، وعلى نهجهم نفسه يسيرون، فيكفرون مرسي لأنه يعترف بوجود إسرائيل، ولا يطبق الشريعة، التي كانت أداة الدفع الأولى والهدفَ الأسمى الذي تسبب بنشأة الحركة التي ولدت بعد الثورة، وكان أغلب أفرادها من نزلاء سجون مبارك. حازمون وغيرهم أما «حازمون»، التي استقت اسمها من قائدها المرشح السلفي للرئاسة حازم أبو إسماعيل، فقد ظهرت كأكبر الجماعات الإسلامية الجديدة التي حاصرت المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي. ووفق حديث مؤسسهم في أحد مؤتمراته لهم: «أنتم الذين ستفكون أسر مصر... أما هؤلاء الذين رضوا واستكانوا (يقصد بقية الحركات الإسلامية التي نكصت وتراجعت عن نصرته) فلا تتباكوا عليهم. إننا في رباط، والرباط بدأ من الآن». أُسست «حازمون» يوم الجمعة 18 تشرين الثاني (نوفمبر)، وأثبتت أحداث «محمد محمود» التي شاركت الحركة فيها بقوة، أنها تختلف عن أقرانها، فقد حشدت الشباب من أجل التنسيق والترتيب لمواجهة الأحداث المتغيرة، عبر الجهاد، والتبشير بالثورة الإسلامية، ومن ثم تفعيلها ومحاولة استقطاب كل من لديه حس ثوري ولم يجد القناة الشرعية لتفعيلها أو ممارستها ممارسة فعلية. وعادت «جماعة وادي النيل الجهادية»، التي أسسها أبو حاتم الحزام في العام 2006، بعد الثورة المصرية، وأصبحت شجرة لها فروع كثيرة، معتبرة -وفق حديث الحزام- أن «الخونة كثيرون في مجال الدعوة الإسلامية، فهم يستغلون الوضع الحالي لمصالح شخصية محدودة»، ومؤكدة أن الوسيلة الحقيقية لدعوتها هي تنقية عقيدة المجتمع من الكفر بالطاغوت. ويرى أبو حاتم أن الثورة كانت ناجحة، لكن من أفشلها هم السلفيون والإخوان، قائلاً إن «حزب النور علماني رغم رفع رايته الإسلامية، ودعاةُ السلفية، مثل محمد عبد المقصود وبرهامي، كانوا يقولون إن الديموقراطية حرام»، متسائلاً: هل الشر يسقط بتقادم الزمان؟». كما عاد تنظيم «المنتظرون»، الذي كان يتكون من مجموعة من الشباب المنحدر من أكثر من تيار أصولي، نظروا لتفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) على أنها عمل بطولي وفتح إسلامي من الدرجة الأولى. وتزعم هذا التيار الطبيب مجدي خفاجة والشاب محمد عبد الدايم، الذي أفصح أثناء التحقيق معه عن رغبته في السفر إلى مواطن الجهاد. الأخطر هو ظهور تنظيمات السلفية الجهادية الجديدة في سيناء، والمتهمة بتفجير أنابيب الغاز وقتل الجنود المصريين، ومنها «تنظيم جند الله»، و «أنصار الشريعة»، و «مجلس شورى المجاهدين»، وهي تنتمي بشكل كبير إلى تنظيم «القاعدة» وبقايا تنظيم «طلائع الفتح» الجهادي، وتؤكد أن ما طرح حول تفكيك خلايا تنظيم الجهاد بعد الثورة غير صحيح، لأنها خلايا على رأس كل منها قائد ينفذ أجندته الخاصة. مهما يكن من أمر، فإن ظهور مجموعات عنف غير تقليدية ك «البلاك بلوك»، ومجموعات منبثقة من جماعات تقليدية إسلامية كتنظيم «الجهاد»، يُعتبر نقلةً موضوعية وتاريخية للجماعات في مصر، وتحولها من مجال المجموعات التي يديرها بعض الرموز إلى ترتيبات ذات طبيعة دعوية وأيديولوجية وسياسية، تتغير كل فترة مع الحالة السياسية القائمة. المجموعات الجديدة قامت من دون تخطيط مسبق، مع غياب المرجعيات القديمة لها، إضافة إلى عدم اعتمادها على المساجد في الانتشار، فيما خرجت عن سياق القديمة، كالدعوة السلفية والجماعة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين، ففيما كانت التيارات القديمة تؤيد المجلس العسكري، كما في أحداث مجلس الوزراء ومحمد محمود، أعلنت الجديدة تأييدها للثوار وشاركت في التظاهرات في الميادين كلها، من أجل تطبيق الشريعة واستكمال مطالب الثورة، وفق تعبير أفرادها. ومن الصعب في الوقت الراهن التكهّن بسلوك مجموعات العنف المنبثقة من الجماعات الإسلامية التقليدية وغير التقليدية، وخصوصاً الجهادية، كونها تيارات ناشئة تواجه تياراً قوياً راسخاً، كجماعة الإخوان، لكنها قد تسحب البساط من التيارات التقليدية القديمة، وتعيد تشكيل الخريطة. * كاتب مصري