«الحج» منهل وكتاب ثقافي مفتوح على الطبيعة، تمكن من كسر حاجز لغات العالم بأنواعها ولهجاتها كافة ودخل العقول حتى تمكن المتعلمون والأميون على حد سواء من قراءة محتواه بالتفاصيل الدقيقة والتزود بثقافة حديثة، مصدرها التجربة العملية. ويفتح صفحته الأولى في المشاعر المقدسة أمام المتلقي يوم «التروية» الذي يصادف الثامن من ذي الحجة، إذ دخل الحجاج مرحلة التطبيق العملي وتفريغ معلومات معنوية لا محسوسة ولا ملموسة من الذاكرة وترجمتها إلى واقع على الطبيعة. وتأتي الحشود البشرية من أصقاع المعمورة تنثر ثقافاتها وعاداتها ذات الصبغة الاجتماعية في الغالب على أرض منى ومزدلفة وعرفات وتَكتسب من الحج ثقافتين دينية واجتماعية. ويرى الحاج المصري مصطفى عبدالسلام خلال حديثه إلى «الحياة» أن هناك خطين مزدوجين متوازيين ينشطان بين الأدمغة ومشاهدين على الطبيعة طيلة أيام الحج التي تشمل التروية والوقفة على صعيد عرفات الطاهر وأيام التشريق الثلاثة، الخط الأول مصدره عقول الحجاج بحمولة ثقافات للعالم والآخر يسير إلى تلك العقول، يزودها بثقافة ثرية المحتوى من واجبات وأركان وسنن ومحاذير وغيرها من حضارات العالم الاجتماعية. فيما قال الحاج العراقي جابر سلام: «إنه إلى جانب تبادل الثقافات توجد في الحج دروس حول احترام الوقت والالتزام بالمواعيد، يتعلم منها الإنسان الانضباط وعدم التخلف في أداء الشعيرة المحدودة بزمان ومكان معينين»، مستشهداً على يوم الوقوف بعرفة، والذي يبدأ من قبل الشروق إلى ما بعد الغروب، والمبيت في مشعري مزدلفة ومنى، والمرتبطين بزمن محدد، إضافة الى أوقات الرمي وموعد التحلل من الإحرام. وأضاف في حديثه إلى «الحياة»: «تأتي هذه الشعائر مرتبة لا تسبق إحداها الأخرى، ما يشير إلى ضروة تعلم الإنسان التنظيم، واكتساب الثقافة من التطبيق أكثر رسوخاً في الذهن من تلقيها من مصادر المعرفة الأخرى»، معتبراً الحج فرصة للاطلاع على ثقافات العالم. من جهته، يرى أستاذ التاريخ بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور عبدالرحمن العرابي أن عملية استيراد وتصدير الثقافات وتلاقحها عبر موسم الحج ذات عمق تاريخي يمتد عبر التاريخ الإنساني إلى عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ثم فرض الحج في الإسلام، إذ كانت الأعداد في خانة المئات وأخذت تتضاعف عبر السنين حتى عايش التاريخ الحديث ملايين من الحجاج يقصدون مكةالمكرمة والمشاعر المقدسة لأداء الفريضة سنوياً، وكل واحد منهم يحمل ثقافة ذاتية. وقال خلال حديثه إلى «الحياة»: «إنه من المؤكد أن هذا النسيج يؤثر ويتأثر عفوياً على الاتجاهين من دون قصد، إذ يمنح ثقافات ويقتبس أخرى من ثقافات الشعوب التي جمعتها مناسبة الحج بأجناسها وخلفياتها الثقافية كافة في إطار جغرافي معين، ولايمكن حصرها في الجانب الفكري فقط، فالعادات والعبارات والمفردات والملبس والمأكل تندرج ضمن الثقافة التي تثري حصيلة المتلقي». وكشف عن نظرية لمؤسس علم الاجتماع «ابن خلدون» والتي تفيد بأن المجتمعات الأقل تطوراً وتقدماً ومسايرة لمعطيات العصر تعد الأكثر تأثراً بغيرها من المجتمعات التي سبقتها في هذا المجال.