أشرت في مقابلة لي مع صحيفة «الشرق» قبل أسبوع إلى كتاب مهم جداً في الإدارة والتغيير، قام بتأليفه الرئيس التنفيذي السابق لشركة «آي بي إم»، ورئيس مجلس إدارتها لويس جيرستنر... سأستعرض لكم هنا بقليل من التفاصيل ما قام به، خصوصاً القرارات المفصلية التي أحدثت الفارق. تجدر الإشارة إلى أن هذه الشركة كانت تخضع لدراسات مكثفة بقصد بيعها كأجزاء، أي تفتيتها تماماً بعد أن تدنت مبيعاتها وأرباحها بسبب نمو الأجهزة المكتبية المحمولة، وقد تجاوزت تكاليف هذه الدراسات مئات الملايين من الدولارات، بعد أن وافق «جيرستنر» على تولي زمام المسؤولية بادر إلى إيقاف العمل القائم على بيع أقسام الشركة بالطبع وبدأ يعمل على الترميم. أول قرارين إتخذهما كانا تغيير المدير المالي، ومدير الموارد البشرية... لماذا؟ يقول في كتابه: «إن تغيير المدير المالي أولوية كبرى في أي وقت تمر الشركة عبر تحول كبير كالذي ينوي القيام به... المدير المالي السابق لن يتمكن من تطوير العمل داخل إدارته بالشكل الجديد المطلوب بعد أن اعتاد على العمل السابق بكل ما حمله من معنويات هابطة، البديل الأنسب لهذه الشركة كان المدير المالي لشركة «كرايسلر» للسيارات، التي سبقت «آي بي إم» في التغيير، كما تعلمون، وقد تم تعيينه بسرعة... أما مدير الموارد البشرية فتغييره ضرورة ملحة أيضاً، لأن الوضع الجديد الذي سيسعى إلى تحقيقه يتطلب برامج جديدة للتحفيز وتطبيق مبادئ مختلفة للثواب والعقاب، لا يستطيع من هو قائم على رأس العمل لسنوات أن يطبقها»، أما القرار الأهم فهو إستعانته بإحدى السيدات ممن عملت معه سابقاً، التي تولت التنسيق والعمل على تغيير الذهنية القائمة في الشركة، والعمل على توحيد المنتجات والأقسام... كما لاحظتم فالسيد جيرستنر شعر أول ما شعر بحاجته إلى دماء جديدة، لاحظوا أيضاً أنه فعل ذلك قبل أن يدخل في دهاليز التكنولوجيا التي لا يفقه فيها أي شيء. من الطرائف التي ذكرها في كتابه أن موظفي الشركة، وعددهم آنذاك أكثر من 300 ألف موظف في 160 بلداً حول العالم، يخضعون إلى لبس زي موحد، عبارة عن قميص أبيض وكرافة حمراء وبدلة زرقاء غامقة، غني عن القول أن هذه القاعدة تم إلغاؤها من اليوم الأول. بدأ عمله رسمياً برسالة إيميل مشجعة وتحمل خبر قراره بإلغاء بيع الشركة، وبعثها إلى كل الموظفين حول العالم، وفتح الباب على مصراعيه لتلقي آراء هؤلاء وردودهم وتعليقاتهم، يقول إنه تلقى رسالة مضحكة من أحد الموظفين عبّر فيها عن ترحيبه بالرئيس، متمنياً له التوفيق، ومختتماً هذه الرسالة بعبارة لاذعة قال فيها: «سنعمل معك إذا أقنعتنا أنك قادر أن تلاحظ الفرق بين «الكوكي تشيبس» و«المايكرو تشبس»... الكوكي تشبس منتج من مئات المنتجات التي تصنعها شركة نابسكو العالمية للبسكويتات، التي كان يرأسها السيد جيرستنر لعشر سنوات قبل أن يرحل إلى «آي بي إم»، أما في زيارته لفرع الشركة في إحدى الدول الأوروبية فقد اكتشف أن الإيميل المرسل منه إلى الموظفين يقف عند عتبة مدير الفرع ولا يصل إلى الجميع... عندما سأله جيرستنر لماذا يفعل ذلك؟ قال له المدير إن موظفيني هنا قد يصعب عليهم فهم الرسالة، وقد يتسبب ذلك في تغيير الهدف الذي من أجله أرسلت، رد عليه الرئيس قائلاً: هؤلاء ليسوا موظفينك، هؤلاء موظفو «آي بي إم»، وأنصحك أن تتوقف عن هذه الممارسة... غني عن القول إن هذا المدير غادر الشركة بعد بضعة أسابيع «بناءً على طلبه». على رغم بقاء معظم موظفي الشركة إلا أن الرئيس قام باستبدال معظم المديرين، ومنهم بالطبع مسؤولو البيع والتسويق وخدمات ما بعد البيع، كما بادر في وقت لاحق على تغيير الوكالة الخاصة بالإعلانات واستبدالها بوكالة جديدة لا تحمل أي ترسبات قديمة. المعنويات هي الأساس ومن أجل التغيير للأفضل لابد من استبدال القيادات بقيادات جديدة لم تتعرض للإحباطات السابقة، أما في مختبرات البحث والابتكار التابعة للشركة، ومقرها بناية منفصلة ضخمة في قلب نيويورك، فلم يحدث إلا الندر اليسير من التغييرات في القوى البشرية فقد كانت على قدر عالٍ من المعرفة. هذه هي القيادة التي تميز بها السيد لويس جيرستنر، التي مكنته من تحول توجه الشركة بنحو 180 درجة، كان سعر السهم عشية توليه المنصب في العام 1993 لا يتجاوز 12 دولاراً، وبلغ هذا السعر نحو 130 دولاراً في العام 2002، الذي كان آخر عام يعمل به في الشركة... اليوم سعر السهم أكثر من 213 دولاراً. الآن في المملكة، خصوصاً القطاع الحكومي، نجد أن من أهم أسباب التكلس والكسل، حتى أحياناً مع تعيين مسؤول جديد، هو بقاء كل الموظفين في الإدارات الوسطى... ما لم يبادر الوزير أو المسؤول إلى تغيير الأشخاص وتطبيق التغيير المنشود بدماء جديدة، فإنه حتماً لن يغير شيئاً وسيصاب هو نفسه بهذا الكسل ويعتاد عليه، إلا من رحم ربي وعدد هؤلاء قليل جداً، أما لماذا لا يستبدل هؤلاء فإن السبب، كما سمعت، يكمن في أنظمة ولوائح وزارة الخدمة المدنية التي لا تمنح الوزير مثل هذه المرونة. بمعنى أننا نأتي بالمسؤول ونطالبه بالتطوير من دون أن نطلق له العنان في بناء الهيكل التنظيمي المطلوب، هذا إلى حد بعيد يشبه من تطلب منه السباحة من طرف الحمام إلى الآخر من دون أن تزيل عن ظهره الكتل والأوزان الثقيلة... دعنا عن الإبداع... كيف سيسبح هذا الرجل؟ * كاتب سعودي. [email protected] @F_Deghaither