يستحق جميع المدنيين كل الحماية، غير أن بعض المدنيين يستحقون الحماية أكثر من غيرهم، أو هكذا تبدو الأمور اليوم في ليبيا. فمنذ عامين أجاز مجلس الأمن عملية عسكرية لحلف «ناتو» فوضه فيها حماية المدنيين ممن تعرضوا لهجمات قوات معمر القذافي، وهي العملية التي أدت إلى سقوط القذافي. واليوم، بعد مدة طويلة من توقف القتال، يتعرض للتهديد من يُعتقد أنهم قد ساندوا القذافي، سواء أكان ذلك الاعتقاد صائباً أم خاطئاً، فالآلاف من النساء والأطفال قد هُجروا من مواطنهم، وأصبحوا يقيمون في مخيمات كثيراً ما يتعرضون فيها للمضايقات، فيما يتم احتجاز الرجال وتعذيبهم وقتلهم. هؤلاء في حاجة للحماية، غير أن الدول التي قامت بالتدخل منذ عامين لم تقم بأي شيء تقريباً في هذا المضمار. أكثر تلك الحالات إلحاحاً تتعلق بالسكان السابقين لبلدة تاورغاء، التي بلغ تعداد سكانها قبل الحرب نحو 42 ألف نسمة. حظي أهالي تاورغاء في ما مضي بالدعم المالي والسياسي من قبل القذافي، وأضحت البلدة مسرحاً للعمليات العسكرية إبان الحرب عام 2011، كما انضم العديد ممن هم في سن القتال من رجالها إلى القذافي في القتال. يُزعم أن بعض هؤلاء الرجال تعمدوا ارتكاب فظائع خلال الحرب في مدينة مصراتة المجاورة، التي كابدت عناء شهرين من الحصار القاسي لقي فيه المئات من المدنيين حتفهم. ويقول أهل مصراتة إن المقاتلين من تاورغاء ارتكبوا أعمال القتل والاغتصاب في مدينتهم، وإنه قد آن أوان الأخذ بالثأر. وها هو الثأر تأخذه الجماعات المسلحة المناوئة للقذافي التي تنتمي لمصراتة، إذ أجبرت سكان تاورغاء كافة على الخروج من بلدتهم. ومع انتشار أهل تاورغاء في أرجاء ليبيا، جرت بحقهم عمليات التصيد والاحتجاز والتعذيب والقتل. وأيدت الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية، التي قامت هيومن رايتس ووتش بتحليلها، ما رأيناه على الأرض، أي التدمير المنظم لأبنية البلدة السكنية والتجارية والصناعية بعد أن توقف القتال، في محاولة واضحة للحيلولة دون عودتهم. يطالب أهل مصراتة بالعدالة على ما تعرضوا له من جرائم، وهو أمر يستحقونه، غير أن إحقاق العدالة لن يحدث بعقاب جماعة بشرية بأسرها جزاءً لجرائم ارتكبها بعض أعضائها، فذلك عقاب جماعي. وعلى رغم أن مجلس الأمن وأعضاءه النافذين قد هبوا لحماية المدنيين الليبيين حين كان القذافي يمثل العدو، فإنهم لم يتخذوا إجراءات جادة بحق الهجمات الثأرية التي يعاني منها أهل تاورغاء وغيرهم من الجماعات المشردة في ليبيا اليوم، والتي يبلغ إجمالها نحو ستين ألف شخص وفق مفوض الأممالمتحدة السامي لشؤون اللاجئين. لقد عبر مجلس الأمن في ثنايا قراره بخصوص ليبيا خلال الشهر الجاري، عن قلقه بشأن الأعمال الانتقامية وأعمال التعذيب والإعدام، غير أنه أخفق في الإتيان على ذكر مأزق تاورغاء. وحتى بعثة الأممالمتحدة في ليبيا، والتي ترصد التطورات عن كثب، لم تجعل من موضوع الانتهاكات بحق أهل تاورغاء وغيرهم ممن يُزعم أنهم كانوا مناصرين للقذافي، أمراً محورياً. ورغم أن الالتزامات القانونية الدولية تشير إلى أن منع تلك الانتهاكات أمر واجب، فإن الانتهاكات بحق سكان تاورغاء واسعة الانتشار، وممنهجة، ومنظمة بما يكفي لاعتبارها جرائم ضد الإنسانية. وقد أشارت إلى ذلك لجنة الأممالمتحدة للتحقيق في شأن ليبيا منذ عام مضى. كما تتحمل الحكومة الليبية مسؤولية حماية شعبها من مثل تلك الجرائم الخطيرة، وأن تحمل مرتكبيها مسؤولية ارتكابها. كذلك تقع على عاتق مجلس الأمن مسؤولية مساعدة ليبيا في تحقيق تلك المرامي. وكحد أدنى، يتعين على مجلس الأمن أن يطلب من ليبيا أن تتقدم بصفة منتظمة بتقارير حول الخطوات التي تتخذها لحماية الأشخاص الذين يتعرضون للتهجير وتسهيل عودتهم. كذلك سوف يكون لفرض الأممالمتحدة عقوبات على الأفراد المسؤولين أثراً فورياً. كما أن بمقدور المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في تلك الجرائم، إذ إن تفويضها في ليبيا لا يزال سارياً. ويمكن تحميل قادة الجماعات المسلحة وكبار المسؤولين في مصراتة المسؤولية الجنائية لإصدارهم الأوامر بارتكاب تلك الجرائم أو التقصير في منعها أو التقصير في معاقبة المعتدين. تؤكد الحكومة الليبية إنها لا تتغاضى عن تلك الجرائم، وإنها تود أن تكف عن الحدوث. وقد صدرت عن رئيس الوزراء علي زيدان تصريحات قوية بشأن ما يقع من انتهاكات من قبل العديد من الجماعات المسلحة في ليبيا والتي لا يملك السيطرة على أفعالها. غير أن هذا لا يحله من مسؤولية بذل جهود إضافية لصالح المواطنين الليبيين الذين يعانون غضب المتمردين المنتصرين، كما وأنه لا يعفي مجلس الأمن من مسؤوليته عن المطالبة بحماية المدنيين في كل الأوقات، سواء أكان ذلك أمراً يسيراً من الناحية السياسية أم لا. إن الإخفاق في تأمين الحماية ضد ثلة من أسوأ الجرائم يطيح بمصداقية الحكومات التي اكدت إنها تدخلت في ليبيا لحماية المدنيين. وبدلاً من ذلك، يتعين على الحكومات الداعمة للمرحلة الانتقالية في ليبيا أن تضغط عليها، في الوقت الذي تقدم فيه المساعدة الملائمة كي تضمن أن يتمكن النازحون من العودة في أمان إلى ديارهم وأن يكون لهم نصيب من الامتيازات التي يفترض أن الانتفاضة الشعبية الليبية والتدخل العسكري الدولي قد أتيا بها. * مستشار خاص ل «هيومن رايتس ووتش»