في زحمة الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية الإخبارية في لبنان، أبصرت النور أخيراً مغامرة صحافية جديدة تحمل اسم «المدن». أما صاحب المغامرة فهو الصحافي المخضرم ساطع نور الدين (57 سنة) الذي يتكئ على خبرة 33 سنة في صحيفة «السفير»، أمضى منها نحو عشرين سنة مديراً للتحرير. تقدم «المدن» ذاتها للقارئ على أنها «يومية إلكترونية مستقلة»، وترفع شعار «جريدة التيار المدني اللبناني والعربي». لكن الصحيفة الوليدة لا تشبه غيرها من الصحف الإلكترونية الإخبارية التي تلهث وراء الأخبار لنقلها سريعاً إلى القراء على مدار الساعة. «سنكون جريدة رأي وتحليل وموقف وتغطيات»، يقول نور الدين واثقاً، هو الذي هجر عموده اليومي الشهير («محطة أخيرة») على الصفحة الأخيرة من «السفير» في آب (أغسطس) الماضي، ملبياً نداءً داخلياً لتحقيق حلمه الذي راوده قبل أكثر من عشر سنوات. «تعلمت في «السفير» كل شيء، إذ بدأت العمل فيها وأنا طالب غرّ، وفيها اختبرت الصحافة، صناعة وتحريراً، من الصفر حتى النضج الأخير»، هكذا يبدو نور الدين وفياً لتجربته الطويلة في الصحيفة اللبنانية الشهيرة، حاملاً في نفسه أطيب الذكريات فيها. لكن لا بد لأي مشوار من نهاية، «فقدمت استقالتي... لأطلق مشروعي الجديد والمختلف». الفكرة... وما وراءها بدأت القصة قبل أكثر من عام، حين توقف نور الدين في أحد المطارات العربية، منتظراً موعد إقلاع الطائرة في الصالون المخصص للشخصيات المهمة (في آي بي). فتح جهاز ال «آي باد» الخاص به ليتصفح ويقرأ آخر الأخبار والمقالات. لكنه فوجئ بوجود حوالى 30 رجلاً وامرأة، غالبيتهم في الستينات من العمر، في الصالون، منهم 23 يستخدمون أجهزة «لاب توب» أو «آي باد» لمطالعة صحفهم ومجلاتهم المفضلة، سياسية أو اقتصادية... أو فنية. «عندها أدركت أن المستقبل للإعلام الإلكتروني، مقرراً العمل على إصدار صحيفة إلكترونية»، يقول نور الدين، معتبراً أن عصر الورق إلى أفول، وأن الصحافة الورقية ستختفي تدريجاً في السنوات ال15 المقبلة. «خلال السنوات الأخيرة، لاحظت تراجع عدد الصحف الورقية التي تدخل منزلي أو مكتبي، فيما زادت ساعات قراءاتي اليومية عبر الإنترنت. وهذا ينطبق على أناس كثيرين غيري». من هنا، تساءل الصحافي اللبناني في قرارة نفسه: «لماذا لا أُقْدِم على مشروع يلبي حاجة القراء العرب، عبر تقديم مادة صحافية مختلفة؟». ولأن المشروع - الحلم يحتاج إلى تمويل حتى يصبح واقعاً، عرض الفكرة على «أصدقاء عرب يشبهونني، من رجال أعمال ليسوا بعيدين من عالم الثقافة والسياسة». صحيفة... للنخبة يحمل نور الدين الكثير من الشغف بمشروعه الإعلامي الجديد. تلمع عيناه حماسة أثناء الحديث عن «المدن» التي قرّر فتح أبوابها مع 12 صحافياً اجتمعوا على الفكرة والهدف. ترك هؤلاء مؤسساتهم الصحافية، حاملين معهم «أسلحتهم»، من تجارب... وعلاقات، ليقتحموا «المدن» معاً ضمن خطة وضعها رئيس التحرير (نور الدين) وتقضي ب «أخذ الخبر نحو العمق»، بعيداً من الاصطفاف السياسي الحاد الذي ينخر لبنان... حتى النخاع. «سنثبت في صحيفتنا أن التيار المدني الديموقراطي في لبنان وسورية والمشرق العربي هو تيار حاضر وفاعل ومؤثر، لديه وجهة نظر ورأي، ويعمل ضد الاستبدادين الأمني والديني». في مكاتب أنيقة في بيروت، يعمل فريق «المدن» وفق سياسة رسمها نور الدين، الذي درس تجارب صحف يومية الكترونية في العالمين العربي والغربي، مثل صحيفة «إيلاف» التي أصدرها الصحافي السعودي المعروف عثمان العمير في 21 أيار (مايو) 2001 والتي عرفت نجاحاً كبيراً في الفضاء العنكبوتي. لكن الصحافي اللبناني يؤكد أن تجربته الجديدة تختلف عن تجربة «إيلاف» الإخبارية. «تبلغ المقالات والتقارير ووجهات النظر نحو 70 في المئة من مواد صحيفتنا، فيما تحتل الأخبار النسبة المتبقية من المساحة، ونسعى إلى أن تكون مادتنا الإخبارية خاصة قدر الإمكان»، يقول نور الدين، مؤكداً أن «المدن» ستكون صحيفة النخبة في العالم العربي، لاسيما لبنان وسورية ومصر وفلسطين. «لدينا حتى اليوم 180 كاتباً، ينتمون في غالبيتهم إلى هذه البلدان الأربعة، يرصدون الأحداث في المنطقة ويسبرون خلفياتها ويكتبون آراءهم فيها باستقلالية ومهنية عالية»، على ألاّ يزيد حجم أي مقال أو تحليل أو تقرير على 500 كلمة، حداً أقصى. أما لماذا تركز الصحيفة على دول المشرق العربي تحديداً، فلأن «موازنتنا لا تسمح لنا بالتوسع نحو دول الخليج والمغرب العربي، إذ علينا حينها أن نستكتب 360 كاتباً بدلاً من 180. وهذا يتطلب أموالاً طائلة»، يقول نور الدين، رافضاً الكشف عن هوية الجهة الممولة للصحيفة أو حتى الموازنة المرصودة للمشروع. «أستطيع أن أقول إن تكاليف إصدار صحيفة الكترونية تساوي ثلث تكاليف إصدار جريدة ورقية يومية»، وهذا يعني أن المشروع يحتاج إلى مئات آلاف الدولارات. لا يتردّد نور الدين في إعلان طموحه: «هدفنا أن نصبح خلال سنتين الصحيفة الإلكترونية الأولى في المشرق العربي، وبعدها سنتوجه إلى العالم العربي، لا بل نطمح إلى أن نجاري صحفاً عالمية»، موضحاً أن «المدن» تعمل جاهدة للوصول إلى أهم القراء وأفضل الكتاب الواعدين للمستقبل. وعليه، لن تكون الصحيفة الالكترونية، التي مازالت في طور البث التجريبي، منافساً لأي من الصحف المحلية. «نراها منافِسة جدية للصحف العربية الكبرى مستقبلاً». ولأن العصر الرقمي هو السائد حالياً، لم يوفر القائمون على «المدن» وسيلة الكترونية إلا استعملوها للترويج لصحيفتهم، مثل «غوغل آد» و«فايسبوك» و«تويتر»... وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، لكون تكلفة الإعلان عبرها تبلغ نحو ثلث تكلفة الإعلان عبر التلفزيون. استطاعت «المدن» خلال فترة وجيزة من انطلاقتها (التجريبية) مطلع شباط (فبراير) الماضي، أن تجذب 17 ألف قارئ ونحو 200 ألف زائر، وفق نور الدين، «وهذا ما لا تحققه أي صحيفة ورقية في زماننا. وبالتالي، فإن الأرقام الأولية نراها مشجعة جداً للمضي قدماً في المشروع». لكن من أين جاء اسم «المدن»؟ يجيب نور الدين: «يتعلق الأمر بفكرة المدينة، ليس بمعناها الحرفي (المديني)، وإنما بمعناها المجازي (المدني) القائم على رفض العسكرة في المطلق. نحن من أنصار «الربيع العربي»، ونعمل على استعادة ثوراتنا من الإسلاميين والعسكر على حد سواء».