في 2008 وقّع 11 مثقفاً شيعياً من منطقة الخليج العربي بياناً مهماً جداً حدد أولويات كبرى في مسار التنوير الشيعي الحقيقي، الذي يُركز نقده في التراثيات الموغلة في الإساءة للتشيّع أو الاضطهاد أو التهميش أو مصادرة العقل النقدي، وإعادة استدعائه اليوم مهم جداً لكي نعرف الفرق بين قضايا التنوير كسلم للحاجة الاجتماعية والثقافية والوطنية للإنسان الشيعي، وبين قضايا الجدل الباهت لدى فريق من المثقفين، أو الاستعاضة عن مواجهة الواقع الفكري لخطاب التخلف والانحراف وتحرير المجتمع المدني الشيعي، من تطويقات الجهل، أو التحريض الاجتماعي إلى إعادة قصة العلاقة السياسية بين الحكم في الخليج العربي وفصائل المعارضة الشيعية، وهي وإن كانت مهمة لفهم الحال السياسية لكنها ليست مبرراً للهروب من واجب القلم والعقل النقدي للواقع الفكري للمجتمع، فهي خذلان للمجتمع الشيعي أولاً، ولفكرة الشراكة الوطنية ثانياً، التي تؤسس للمجتمع المدني الحديث والدولة الوطنية، وأهمية العودة للبيان، لأنّه كتب بأقلامٍ شيعية ثم النظر بعد ذلك هل تطوّر، أم خنق وقتل في مهده، أو ضيّق عليه، ومن فعل هذا التضييق، أو نفّذ هذا الاغتيال الفكري؟ تناول البيان المشهد الفكري الشيعي، خصوصاً، والعربي عموماً، لما تضمنه من مفاصل حساسة في التاريخ التشريعي الملتبس بين الحدث السياسي والموقف الفكري، وبين النص المنقول والنص الملهم للشخصيات الدينية على مدى قرون مضت، بحسب اعتقادات المرجعيات الحديثة والقديمة. وتحدث عن قضية تقديس المرجع، وهو ما طوّر فكر التطرف من خلال تضخيم حقوق الولاية الفقهية، وهي السؤال الأبرز الذي أثاره المثقفون والذي تُبنى عليه قواعد عدة في فهم الموروث والنص الديني الشيعي المجلل بحال قداسة لا تقف عند صريح القرآن، وما نقل عن النبي «صلى الله عليه وسلم»، أو أئمة آل البيت الأوائل، ولكن تُعمم كل ما يُنسب إلى المدرسة من دون قيد واضح أو معايير ثابتة. وفي كل الأحوال ما قام به المثقفون من دعوة صريحة لإسقاط هيمنة فكر ولاية الفقيه التي تعتمد على تقديس الشخوص من غير الأنبياء وما ينقل عنهم، ثم تعتمد الحق في احتكار الولاية المطلقة، هذه المصارحة تعتبر خطوة كبيرة، خصوصاً في مرحلة زمنية حساسة أحكمت فيها الجمهورية الإيرانية قبضتها على تفاصيل الحراك الثقافي، وهو ما يبرر هذا الهجوم الشديد الذي تعرضت له تلك الشخصيات الثقافية بعد الإعلان عن بيانها. وأثار البيان إحدى أهم القضايا المسكوت عنها عبر الإرهاب الضمني الذي جُسّد في نفسية الفرد من أبناء الطائفة لو قرر أن يسأل أو يستفسر، وهو التساؤل التاريخي، أين تذهب أموال الخمس؟ ولو فقط أخذنا بالاعتبار فترة قيام الثورة الإيرانية وما يتبعها من حصر تلك الأموال في جهات محددة موالية لها، وتم ترحيل مئات البلايين إلى الجمهورية الإيرانية من المبالغ التي تجمع من 20 في المئة من أرباح الفرد، بحسب المفهوم المطبق قسرياً عن طريق المراجع، ثم تأملنا في أوضاع المحرومين من الجنسين وما يعانونه، خصوصاً أن الفقراء والمساكين ليسوا من مصارف الخمس، تتبين الحقيقة الإنسانية المُرّة أن هذه الأموال كان ولا يزال بالإمكان أن تعمل الكثير للشباب والشابات من الجنسين، أو لذوي الاحتياجات الخاصة، أو المؤسسات المدنية التي تُعنى بثقافة الفرد أو سلامته البيئية، وهي قضية، وإن كانت معلّقة لكنها موجودة في تساؤلها لدى الضمير الشيعي الإنساني، وإن كان هذا لا يُعفي أي دولة من مسؤولياتها الاقتصادية. ومع أنّ المثقفين استخدموا ألفاظاً ديبلوماسية تُعفيهم من أي إقرار بفضل صدر الصحابة من الخلفاء الراشدين الثلاثة، إلا أن المقياس الواجب أنّ يؤخذ بالاعتبار هو الخلفية العقدية والتاريخية والمجتمعية المحيطة بأولئك النُخب هي محل المقياس وليس موقف أهل السُنّة في حسمياته وقطعياته التي تختلف في هذه القضية وفي قضايا أخرى أوردها المثقفون، فهنا النخبة الموقّعة فَضّلت أن تكتفي بالرفض الصريح والقاطع للمس بالخلفاء فتؤسس لهم قضية تحمل نفساً وحدوياً واضحاً وجلياً، خصوصاً أنّها أعقبت ذلك بالدعوى لتطهير الثقافة المعاصرة من تأثير الحركة الشيعية الموالية لإيران، التي عززت هذا الخطاب الانفصالي المحتقن في الشارع الشيعي العام الذي يواليها بعد أن كان أقل ظهوراً، وأكدت ضرورة النبذ لهذا المفهوم الخطر من الجيل الأول. المهم للغاية أنّ الصورة كانت واضحة حين نصّ البيان على أنّ نبذ هذه المسائل إنما يحقق الوحدة للطائفة مع أمتهم وأوطانهم، وأوضح البيان حرصه الكبير على هذه الوحدة، وخص بالذكر نبذ التدخل الإيراني التاريخي، وإن لم يُسمِه، لكن الوقوف عند هذه القضية يُجلّيها ويربطها، إذ إن من أهم العوامل لقضية الاحتقان والتفرقة والتمكين للنفوذ السياسي المزدوج هو توظيف الجمهورية الإيرانية لهذا الخطاب الطائفي الخاص من خلال تبني المدرسة الموالية لها متابعة تنشيطه وتثبيته في ذاكرة الشاب الناشئ، ومواجهة أي محاولة للتصحيح، أو المراجعة العقلية والمنتمية لأصل الدين لنبذ الفرقة الطائفية. رسالة النبوات وقف البيان أمام سؤال العقل الديني: هل الدنيا خلقت للأئمة والمعصومين، أم خُلقت لحكمة ربانية «تعبدية للخالق من دون سواه»، وتحقيق الحرية والعدالة للإنسان، إنه سؤال كبير في مسيرة الطائفة الفكرية وأدبياتها التي تتبنى في بعض المآتم من العبارات التي تقطع بما يناقض هذا المفهوم، وهي أكثر من مياه راكدة ومتداخلة بين الإيمان الحقيقي لمروجيها، وبين المصالح والتوظيفات. نحن اليوم في عام 2013 بعد قرابة الأعوام الخمسة من البيان، وفي أوج الاحتقان الطائفي، وآثار هذه الانحرافات التي رآها الوطن العربي في سورية، وموقف إيران وحزبه اللبناني، أمام أسئلة المستقبل الوطني والعقد المجتمعي، نعود لطرح التساؤل المهم، أين البناء على هذا الخطاب؟ وأين أقلام الشجاعة التنويرية من مصارحة المجتمع وصناعة المجتمع الوسطي؟ أين إنتاجها؟ أين مواقفها؟ لماذا هرب البعض من هذه المسؤولية واستبدل بها ترديد الحكاية السياسية، أو نقد الحال السنية، الأوطان والمجتمع، بل وأبناء الطائفة بحاجة لهم هنا، في هذا الموقع تحديداً، وسيبقى انسحابه من هذا المشهد محل شك، ما التنوير الذي يقصد وقلمه ينقطع عن هذا المشهد؟ هناك شاهد ودليل يعرفه كل منصف، وبه يدرك الحقيقة بين التكتيك الطائفي، أو الإيمان بمبدأ سمو العقل والقيم النبيلة. * كاتب سعودي. @mohannaalhubail