ليس للحروب الأهلية تاريخ موحدّ أو جغرافيا متجانسة أو منطق واحد، وحرب لبنان الأهلية الأخيرة خير دليل على التراكب الذي ينتجه وضع الاقتتال الداخلي. فيدخل المجتمع أو يتدحرج بطرق مختلفة إلى الحرب، حيث تتعايش حالات التهجير مع الانتعاش الاقتصادي، والسلم مع الفوضى، والمؤامرات مع الفلتان، والخير مع الشر. ويعود كتاب التاريخ ليؤطر هذه التجربة في رواية موحّدة، غالباً ما تنتهي باستنتاج أخلاقوي عن مآسي الحرب وضرورة الغفران. لتلك الحروب مفرداتها المحدّدة ولغتها الخاصة، التي تشمل مفاهيم الزمان والمكان، كما أنها تعيد بلورة الخريطة البصرية والخيالية للمجتمع المأزوم وتوزيع الخوف والقلق عليها. وتلك المكوّنات تسبق اندلاع النزاع العلني، مهيئة الساحة لاستقبال الاقتتال وتأطيره. ففي اللحظة ذاتها التي ينتقل فيها النظام السياسي اللبناني إلى أقصى درجات الوضوح، يغوص المجتمع في حالة من الغموض والالتباس يؤسّسان لنظام اجتماعي من الرؤية والخيال تابع لزمن الحروب الأهلية، ويشكّلان خطوة إضافية في اتجاه هذه الحرب. تبدأ الخريطة البصرية الجديدة مع تفكك المنظومة الخيالية لحالة السلم من خلال فقدان الثقة المتزايد ب «الظاهر» بوصفه المشترك المُطمئِن والجامع. وقد شكّل التشكيك المتفاقم بالسياسة ومؤسساتها، باسم ضروريات المقاومة ومحاربة الفساد وفضح المؤامرات، الخطوة الأولى لهذا التفكيك. بيد أنّه سرعان ما امتدّ هذا الشكّ إلى كل المجتمع، مؤدياً إلى حالة من الانحلال المعمّم لمنظومة الرؤية والخيال الاجتماعي. ويمكن أن نلمح ذوبان «الظاهر» في الشكّ المتزايد بظاهرة الفضائح المتتالية، كالتي طاولت اللحوم الفاسدة والأدوية المزورة ومباريات كرة القدم المُتلاعب بنتائجها. هكذا فقد «الظاهر» شفافيته وبات مجرّد فضيحة في طور التبلور ومصدراً لتشويش الرؤية. ما نراه لم يعد الحقيقة بل مجرّد تلاعب له قوانينه وضحاياه. ترافق هذا التفكيك ل «الظاهر» المشترك مع انتشار ظاهرة «مناطق الغموض والالتباس»، حيث يتربّع الخطر فيها متستراً وراء مظاهر مألوفة. فبعد عملية أبلسة الضاحية الجنوبية كمنطقة خارجة عن القانون يتمازج فيها التدين والمخدرات والإجرام، بدأت عملية مقابلة لتصوير طرابلس كقلعة سلفية تختبئ فيها جماعة لا نعرف عنها إلاّ أنّها لا تضمر الخير لأحد. ومناطق الغموض هذه لم تعد تنحصر في مدن بعيدة فحسب، بل باتت تضمّ أحياء في مناطق كانت تعتبر آمنة، من تجمعات «الأجانب» في المناطق المسيحية وتغطيتهم الإعلامية القذرة إلى شقق عبرا وخوف الشيخ المفتعل منها. هكذا أصبحت خريطة لبنان خريطة الخطر المتخيّل، ومن يجهل تعاليمها قد ينتهي في أماكن غامضة ومخيفة. والغموض هذا ليس جغرافياً فحسب، بل بات يمتدّ ليشمل مجموعات من البشر، يُمنع عليهم التجول بعد الساعة الثامنة والنصف، كما قررت بلدية بطشيه المرداشة في قضاء بعبدا. فالليل والظلام هما بيئة الغريب والمخيف، وإذا لم يكن باستطاعة البلدية إطالة النهار، فمتاح لها على الأقل حجز غير المرغوب فيهم ريثما يعود النور وتتضح الأمور. وقد انتشرت خريطة الغموض على وقع تزايد عملية اختفاء وخطف القاصرين، حيث يمتزج الجرم بالخيال ليثبّت ويصلّب تلك الخريطة. فالأولاد لم يعودوا يعيشون في أمان، وهم قد يخطفون إلى أماكن بعيدة، معروفة ومجهولة في آن. وليس من ظاهرة أكثر تعبيراً عن انتشار هذا الغموض والالتباس كظاهرة السيارات ذات الزجاج الداكن، المشتركة بين الخاطفين ورجال الأمن وبين الظاهر والمستور وبين العدو والصديق. في ظل فقدان «الظاهر» لقدرته التوجيهية وانتشار الغموض، تبدأ عملية النظر بعين الآخر كونه من يتحكّم بمجرى الأحداث من وراء هذا «الظاهر». فتتحوّل العلاقة مع هذا الآخر إلى عملية تماهٍ ومحاكاة، قائمة على فرضية أن الآخر بوصلة للخروج من حالة الغموض. فالشيخ أحمد الأسير يريد لنفسه معاملة كالتي يحظى بها الرئيس نبيه بري والأمين العام ل «حزب الله» حسن نصر الله، وآل المقداد يطمحون إلى معاملة مشابهة لمعاملة الشيخ الصيداوي، والإسلاميون يريدون معاملتهم كآل المقداد، والمسيحيون يرغبون في معاملتهم كالمسلمين. وتمتدّ المحاكاة لتطبّق حالة من التشابه، لا تدلّ إلاّ على فقدان أية قدرة على الخروج من الواقع الغامض الجديد: في وجه استجواب الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة واللواء السوري علي مملوك، هناك مذكرات توقيف في حق الرئيس سعد الحريري والنائب عقاب صقر، وفي وجه رهائن حلب، هناك مفقودو تلكلخ وشهداؤها، وفي مقابل المربع الأمني في الضاحية الجنوبية، مربعات عكار وطرابلس. وبعد استنفاد الآخر كبوصلة، تنتشر أنظمة رؤية غير تقليدية، تحاول استقراء الواقع في محاولة بائسة لإرساء بعض الوضوح. من بين تلك الأنظمة تحضر الإشاعات كتلك التي انتشرت عن صور لشهداء يُنكّل بجثثهم، أو عن وصول سيارات مفخخة إلى طرابلس، والتي باتت مصدراً لأخبار تترتّب عليها جولات قتال. أما النموذج الآخر لتلك الأنظمة فظاهرة المنجّمين التي انطلقت مع عيد رأس السنة لتستعمر شاشات التلفزة ولتصبح مرجعاً للمستقبل. فالخريطة البصرية للحرب الأهلية هي خريطة الإشاعات والمنجمين و»المصادر»، وهي تتطلب عارفاً يتجول بينها. إن انحلال الدولة هو قبل كل شيء انحلال منظومة الخيال السياسي والاجتماعي وإدخال خريطة المجتمع في الإبهام. ومن فكّك الدولة، يتحمّل مسؤولية العمى المعمّم الذي أنتجه هذا التفكيك، وإن لم يكن لمفهوم المسؤولية أي أهمية في الوضع الجديد. وربما كان أحد آثار حالة الغموض هذه، ذاك العمى السياسي الذي ما زال يعتبر الانتخابات مرحلة مفصلية، غير مدرك أنها قد تكون الأخيرة.