يُضاف قرار الجامعة العربية الأخير إلى عشرات القرارات المشابهة، المتخذة على امتداد العامين السالفين، وعلى كل المستويات. يمنح القرار مقعد سورية إلى «الائتلاف الوطني السوري» ما أن يشكل هيئة تنفيذية هي بديل موقت من الحكومة العتيدة. من الناحية القانونية البحتة، يثير القرار المتَّخذ مشكلات من غير الممكن تجاهلها لدى أي تفحص منهجي جدي. ويمكن لدولة أن تستخف بهذا الجانب، لكن المفهوم المؤسسي والدولتي، ورسوخ الأصول الموضوعية، يُضاران من هذه الخفة المتناهية، ما يسدد ضربة إضافية للجامعة العربية، لعلها كانت بغنى عنها. ولا يضيف القرار مساهمة في حل المسألة التي ما زالت تدور حول كيفية الخروج من المأزق السوري المستعصي، طالما تستمر المعادلة الفاعلة على الأرض: لا يستطيع النظام السيطرة وإنهاء الانتفاضة ضده، ولا تستطيع قوى المعارضة إسقاط النظام. وهي معادلة جرى الاعتراف بها بعد مكابرات كان يمكن أن يقال عنها إنها مضحكة لولا فظاعة الموقف. لا علاقة للعواطف ولا للقناعات ولا للمواقف بهذا التقدير. لولا ذلك، لتمكنت الرغبات من إسقاط بشار الأسد عن السلطة، فهو فقد كل شرعية بعد بحر الدماء القائم، والدمار الشامل. وهو ونظامه سيئان قبل ذلك، ومن كل الوجوه... وينطبق عالم الرغبات التي تعيد صوغ الواقع على سواه حتماً من الحكام والأنظمة في أكثر من مكان. ولأمكن مثلاً أن يزال الظلم المتعدد الأوجه من العالم. ليست المسألة في هذا، بل في تفحص الاستراتيجيات وما يرافقها من تكتيكات، وأثرها في توازن القوى كما هو قائم، بكل معطياته، بغاية تعديلها والفعل على خطوطها: تحريكها. وهذا من بديهيات السياسة، ومما يفترض بطلاب علمها أن يكونوا أدركوه قبل تخرّجهم. الاستعصاء ما زال قائماً، وبدا في لحظة ما أن محادثات في الظل تجري بين أطراف دولية لمحاولة تقليب عناصره وتفحصها بغاية حلحلته. ليس مؤكداً ولا بديهياً أن يصل ذلك الجهد إلى نتائج، وقد يُحبَط تماماً. وهو على أية حال ليس حلاً سحرياً، ضربة عصا عجائبية وينتهي الأمر، وقد يتطلب الوصول إلى إطار للحل شهوراً بل سنوات. وقد لا يمكن تطبيقه على الأرض حتى في حال الاتفاق عليه. والأمثلة القريبة والبعيدة، زمنياً وجغرافياً، أكثر من أن تحصى. وفي الأثناء، يحمل كل يوم يمر على السوريين آلاماً وخراباً لا تطاق، وتهديداً بأن يطاح بكل «هندسة» (يا لهول الكلمة) ممكنة، وأن تفلت الأمور أكثر. نعم هناك دائماً «أكثر». ولا يمكن ألاَّ تصيب حالة أخروية كهذه المحيط الإقليمي لسورية، في دوائر متعددة، وقد تتسع كثيراً. قد يحدث في أي لحظة أن يزول الأسد شخصياً. تلك من الضربات المؤثرة في توازن القوى وانزياح الخطوط الشهيرين. قد يعمّ في سورية بعد الحدث عنف مضاعف، عنف من أجهزة النظام الذي لا ينهار تماماً بزوال رأسه، لا سيما أنه رأس جديد وهش من كثير من الوجوه، وأنه كنظام، يمتلك بنية شديدة التعقيد والامتدادات. وعنف من المجتمع، بكل مكوناته، بما فيها معارضاته التي قد لا تتمكن لأسباب عديدة من ضبط الموقف. وهي لهذه الجهة تطرح مشهداً أقرب إلى ليبيا مضروبة بألف، مما هو إلى مصر وتونس، رغم عدم استقرارهما. هل يعني ذلك الاستعصاء، وكل الأخطار المرعبة المصاحبة له، التراجع عن الانتفاضة والتسليم للنظام، كما يحلم أركانه؟ قطعاً لا، كموقف سياسي وقيمي. وهو على كل حال خيار غير واقعي، لا يمكن تحقيقه (علاوة على بشاعته). هل يعني ذلك تغليف الواقع بالأوهام، بغاية رفع المعنويات، ومساعدة الناس على الصبر والتحمّل؟ لهذا المسلك سوءاته التي برزت إحباطاً وانكفاء عندما يكتشف الناس إياهم أن ما سوِّق لهم كان كذباً. تلك هي عناصر المأساة بكل ما للكلمة من معنى. وأما القلق الذي تبديه أطراف دولية، من الرايات السود المرفرفة، ومن قطع رؤوس البشر والتماثيل، ومن التصريحات الأقرب إلى منطق وخطاب «القاعدة» (اختصاراً) مما إلى أي شيء آخر، فقلق على المقدار ذاته من العقم. وأما مقترح تسليح «بعض» المعارضة، فمضحك حقاً، ويدل على تفكير أشخاص لم يخوضوا يوماً حرب عصابات ولا حرباً أهلية: هنا يا سادة، يمكن لأي فصيل أن «يشلّح» سواه ما في حوزته من دون تساؤل حول شرعية وأناقة هذا المسلك! لكنه اقتراح يدل على العجز القائم. فالجواب على «ما العمل؟» إجباري. العقلانية الوضعانية تفرض ذلك. وهكذا، لا بد من جواب ما لملء الفراغ. يقول النظام: انظروا إلى النتيجة البشعة! ألم يكن من الأفضل تلافي كل ذلك؟ ماذا جنيتم سوى الدمار التام والخراب؟ ألستُ على كل علاتي أفضل مما هو قائم الآن، وربما مما يمكن أن يقوم؟ كأنه لا شأن له بالمسار الذي أوصل إلى هذه اللوحة، قبلها وفي أثنائها. مثل هذا المنطق من غير طائل، ولا يمكن محو السنتين ولا يمكن الرجوع إلى ما قبلهما، ولا حتى تركيب معادلة تلفيقية كما يقترح هو تحت مسمى «إصلاحات» أو «حلول سياسية». هذا منطق ينتمي إلى عالم آخر، وهمي. تقول المعارضات: فليسقط النظام، فليُزل ويُكنس، ولا نرضى بعد كل هذا الدمار والخراب وتضحيات البشر، بأقل من ذلك. وهذا أيضاً لا تظهر علامات على كيفية تحقيقه ولا على توقيته المحتمل. وفي الأثناء، يُدار الموقف، وتُواكب المعطيات، وتُرافق الأزمة. وهذا ما جرى على الصعيدين السياسي والديبلوماسي... بانتظار تغيير لن يخفى على أحد حين يقوم. هل يعني ذلك أن الوضع جامد وإستاتيكي؟ بالتأكيد لا. لكن المخارج ما زالت غائمة... مع الاعتذار عن مقدار وحشية مثل هذا الاستنتاج للناس الذين تبدو كل دقيقة لهم دهراً... ويحق لهم أن يأملوا بأن يكون غدهم أفضل من ماضيهم وحاضرهم.