دعاني معهد التخطيط القومي في القاهرة، وهو من أعرق مراكز البحوث الاقتصادية في مصر، لكي أشارك في ندوة عن الأبعاد الاستراتيجية والأمنية في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير). وحين جاء دوري في الكلام قلت إنني سأخرج عن النص ولن أتحدث عن الأبعاد الأمنية والاستراتيجية ولكنني سأقوم بتحليل ثقافي لثورة 25 يناير منذ قيامها حتى الآن. وكنت منذ قيام الثورة أوقفت كل مشاريعي الكتابية والبحثية، وتفرغت لكتابة مقالاتي الأسبوعية للتحليل الثقافي النقدي لأحداث الثورة. وقد تراكم لدي بعد عامين من وقوع الثورة أكثر من مئة وخمسين مقالاً تعكس مسيرة الثورة بين الصعود والهبوط، وتبرز لحظات النصر وأوقات الانكسار. ولذلك قررت أن يضمها كتاب واحد سيصدر قريباً بعنوان «الشعب يقف على منصة التاريخ: تنظير مباشر للواقع». والواقع أنني استعرت هذا العنوان مما أورده الفيلسوف الفرنسي المعروف آلان باديو في كتابه الذي ترجم أخيراً إلى اللغة الإنكليزية بعنوان «إعادة مولد التاريخ»، وتعرض فيه لتحليل ثورات الربيع العربي، وأورد اقتباساً من المفكر الماركسي الشهير تروتسكي، الذي قال مرة: «هناك لحظات تعتلي فيها الشعوب منصة التاريخ»! وقد استخدم باديو هذه الجملة للإشارة إلى كل من تونس ومصر، حيث استطاع الشعبان التونسي والمصري بأياديهم العارية إسقاط النظامين المستبدين اللذين قهرا الجماهير عقوداً طويلة من السنين! وقد ساعدتني في تشريح ثورة 25 يناير تحليلاتي الثقافية لكل اللحظات التي مرت بها حتى وصلت الآن إلى انقسام حاد بين الفصائل السياسية المصرية المعارضة حول هل تقتنع بالمعارضة من داخل النظام، أم تعلن الانشقاق عليه علانية سعياً وراء إسقاطه نهائياً؟ وقد حاولت في بداية تحليلي للثورة أن أؤصل الإرهاصات الحضارية التي حدثت في العالم وأدت إلى إشعالها، سواء في تونس أو مصر أو ليبيا أو غيرها من البلاد. وقررت أنه على غرار ما حدث حوالى عام 1990، حين تغير العالم لأسباب متعددة تغيرات جوهرية في البنية السياسية والاقتصادية والثقافية، والتي كان رمزها البارز انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفياتي وسقوط النماذج المعرفية التقليدية التي كانت تساعدنا كباحثين في العلم الاجتماعي على وصف الظواهر وتفسيرها، فإن وقوع الثورات العربية أسقط أيضاً عدداً من النظريات والتفسيرات الزائفة والتعميمات الجارفة عن الاستبداد العربي وعن الشخصية العربية، وخصوصاً في خضوعها واستنامتها للنظم الشمولية والسلطوية. وأصبحنا في حاجة إلى إطار نظري جديد يساعدنا على وصف الظواهر والتنبؤ بمسارها. والواقع أنه قد سبق لي في كتابي «الثورة الكونية والوعي التاريخي» الذي صدر في القاهرة عام 1995، أن صغت نظرية متكاملة لتفسير التغيرات التي لحق ببنية المجتمع العالمي وأطلقت عليها «الثورة الكونية»، والتي هي -كما شرحت أبعادها- ثورة مثلثة الأبعاد، فهي أولاً ثورة سياسية تعكس الانتقال التاريخي من الشمولية والسلطوية إلى الليبرالية. وهي ثانياً ثورة قيمية تبرز التحول من القيم المادية -مثل توفير الحاجات الأساسية للإنسان- إلى القيم ما بعد المادية، التي تهتم اهتماماً شديداً بالحاجات المعنوية والروحية للإنسان، مثل احترام الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، وإشباع الميل الطبيعي للإنسان تجاه الإيمان بقيم دينية. وهي ثالثاً ثورة معرفية تعلن عن الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، التي أصبحت -وإن بطريقة غير مباشرة- فلسفة العولمة، التي لا تؤمن بالأيديولوجيات المغلقة، التي تدّعي كل واحدة منها أنها تملك الحقيقة المطلقة، ولكنها –بدلاً من ذلك- تتبنى صياغة الأنساق المفتوحة التي تتميز بقدرتها على التأليف الخلاق بين متغيرات كان يُظَنّ من قبل أنه لا يمكن الجمع بينها، مثل عدم التناقض بين العلمانية والدين، أو بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. كل من ثورة تونس وثورة مصر قامت أساساً للدفاع عن الكرامة الإنسانية بعد مقتل البوعزيزي في تونس، ومقتل خالد سعيد في مصر بعد تعذيبه على يد الشرطة. ولكن هذا التركيز الشديد على الكرامة والحرية لا يستبعد الاهتمام أيضاً بالحاجات الأساسية للإنسان، والتي لا بد منها لتحفظ له كرامته، وهي العيش الكريم في ظل عمل دائم. ولم يكن هذا غريباً في الواقع، ففي كلا البلدين ازدحمت الشوارع والميادين بملايين الشباب من المتعطلين الذين لم تتح لهم النظم السياسية المستبدة الفاسدة فرصة الحياة الكريمة. ومن الأهمية بمكان في تحليلنا لثورة 25 يناير، أن نرصد ملامح العصر الذي قامت في سياقه، تطبيقاً لنصيحة المفكر الإيراني الشهير علي شريعتي، أن «على الباحث قبل أن يتطرق لموضوع بحثه أن يسأل نفسه أولاً في أي عصر نعيش؟» والواقع أن عصرنا يتسم بسمات أساسية عدة، أهمها على الإطلاق أننا نعيش حقبة تاريخية تتسم ب «الزمن المتسارع»، حيث تتزايد فيه سرعة الإيقاع بالنسبة للظواهر السياسية والاقتصادية والثقافية على السواء. ليس ذلك فحسب بل يتسم عصرنا بتدفق المعلومات على المستوى الكوني، نتيجةَ ذيوع استخدام شبكة الإنترنت، وتدفق الأحداث على المستوى العالمي بتأثير الزمن المتسارع. وقد أدت كل هذه الظواهر إلى التعثر في المسارات المختلفة، نتيجة عدم الرشد في اتخاذ القرارات أو البطء في اتخاذها، مما أدى إلى أزمات سياسية واقتصادية متعددة. في ظل هذا السياق العالمي المتغير والمتوتر على السواء، قامت ثورة 25 يناير. وهذه الثورة أدت في الواقع إلى تغيرات جوهرية في بنية المجتمع المصري، الذي أصبح يتسم بسمات مغايرة لصورته في الماضي. أول سمة من هذه السمات انزواء دور المثقف التقليدي وبروز دور الناشط السياسي، القادر بحكم صلته العضوية بالشارع على أن ينظم التظاهرات ويقود الحشود ويمارس الاعتصامات. والسمة الثانية بروز ظاهرة التحشيد الجماهيري، التي يتولد العنف -عادة- من حركتها في الشارع، والتي لا تستطيع قوى الشرطة أو القوات المسلحة مواجهتها وقد تؤدي إلى فوضى عارمة وتخريب واسع المدى. والسمة الثالثة بروز التناقض بين الشرعية الثورية التي يتبناها الثوار والناشطون السياسيون عامة، والتي تؤكد الحق في التظاهر والاحتجاج على أي قانون أو قرار، والشرعية الدستورية التي تركز على ضرورة احترام المؤسسات وتطبيق سيادة القانون. والسمة الأخيرة هي إصرار الجماهير على المشاركة في اتخاذ القرار، وليس ذلك فقط، بل الرقابة على تنفيذ القرار والاحتجاج عليه ورفضه بالتظاهر ولو خالف رأي الجماهير. ويكمن في هذه السمة الأخيرة سر عشرات التظاهرات والمليونيات التي ازدحمت بها شوارع القاهرة وغيرها من المدن المصرية احتجاجاً على قرارات معينة لم ترض عنها الجماهير لدرجة احتجاجها على أحكام قضائية لم تأت على هوى الشارع. وقد أدى نجاح جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات النيابية بالاشتراك مع السلفيين، بالإضافة إلى فوز الدكتور محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة بمنصب رئيس جمهورية مصر، إلى تطبيقها سياسة «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع». ومع مرور الزمن تبين أن رئيس الجمهورية المنتخب بالإعلان الدستوري الشهير الذي أصدره ونصب نفسه فيه ديكتاتوراً مطلق الصلاحية، قد أدى إلى قسمة المجتمع إلى نصفين: التيار الليبرالي والثوري في جانب والتيار الديني من جانب آخر. وهكذا، يمكن القول إن الصراع السياسي العنيف الذي يدور في مصر حالياً -والذي وصل إلى حالة العصيان المدني في محافظات القناة (بورسعيد والإسماعيلية والسويس)- قد أوصل المجتمع السياسي والمصري إلى خيارين لا ثالث لهما: إما المعارضة من داخل النظام بالوسائل الديموقراطية المعروفة، وإما الانشقاق على النظام تمهيداً لإسقاطه. وقد حسمت جبهة الإنقاذ في مصر التي تمثل المعارضة رأيها منذ أيام، حين أعلنت مقاطعة الانتخابات النيابية والانشقاق على النظام تمهيداً لإسقاطه. وهكذا، من ثورة شارك فيها كل الأطراف السياسية، إلى انقلاب على جماعة الإخوان المسلمين التي رفعت شعار «مغالبة لا مشاركة»! * كاتب مصري