نستعرض في ما يلي الحملتين الوطنيتين اللتين بادرت الى إطلاقهما وتنسيقهما «حركة حقوق الناس» مع العديد من الهيئات المدنية والأحزاب في لبنان، حول الأحوال الشخصية المدنية والإعدام، وذلك منذ العام 1997. والموضوع يندرج في سياق الردّ على مقال سابق نشرته «الحياة» بتاريخ 3/4/2001، من إعداد الصحافية حنين غدار، والذي تضمّن الى المعلومات الخاطئة، القدح والذمّ بحق «حركة حقوق الناس» عامةً ومؤسسيها د.وليد صليبي ود.أوغاريت يونان خاصةً، وأيضاً بحق أعضاء الحملتين والناشطين فيهما كما بحقّ الهيئات المموّلة والمساندة. ويأتي هذا الرد من ضمن تسوية حبّية تمت بين إدارة «الحياة»- بيروت وبين «الحركة»، إثر الدعوى التي أقامتها هذه الأخيرة لدى محكمة المطبوعات المختصة في بيروت، لرفع الغبن عنها. الأحوال الشخصية المدنية شهد لبنان خلال عامي 1997 و1998 قيام مبادرات ونشاطات عدة، أحيت مجدداً قضية الأحوال الشخصية المدنية. فكانت مبادرة رئيس الجمهورية السابق الياس الهراوي التي أحدثت صدىً كبيراً في المجتمع اللبناني، إيجاباً وسلباً ودفعت بمشروع قانون جديد الى مجلس الوزراء، في سابقة أولى حصدت 21 صوتاً مؤيداً من أصل 30 وزيراً، لكنّ أفق هذه المبادرة تعطّل سياسياً وطائفياً، إذ طُلب طيّ الملف. قبل ذلك وأثناءه، كانت لقوى مدنية عدة مبادراتها المستقلة، وبينها «حركة حقوق الناس»، التي كانت انطلقت منذ العام 1995 في حملة توعية بهذا الخصوص، ودعم للشباب الراغبين بالزواج المدني، إلى بحث مفصّل عن تاريخ هذه القضية ومشاريعها ومبادراتها في لبنان منذ الخمسينات... ما دفعها الى إطلاق دعوة، عام 97- 98، موجّهة خاصة الى أصحاب مشاريع القوانين المدنية للأحوال الشخصية من أفراد وأحزاب (وبينها مشروع الرئيس الياس الهراوي)، بهدف التنسيق، لبلورة تصوّر مشترك لقانون مدني لبناني متطوّر كما لتحرّك وطني جامع. وهذا ما تحقّق عقب الندوة الوطنية التي نظّمتها في 8 آذار من العام 1998 والتي مهّدت لتشكيل الحملة الوطنية التي حملت اسم «اللقاء من اجل قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية»، وذلك في اجتماع حاشد في الكارلتون بتاريخ 24/4/1998. وقد أعدّت لجنة موسّعة وممثّلة للعديد من الأحزاب والجمعيات، إلى أفرادٍ، وثائق هذا «اللقاء» وخطة عمله وبيانه التأسيسي ومتطلباته المالية وآلية اجتماعاته... وللمرة الأولى، تكتّل وفي إطار منظّم ومتواصل، هذا التنوّع من القوى والأفراد، ولاسيّما في مرحلة ما بعد الحرب، حول قضية «شائكة» لطالما تجنّبها كثيرون وما زالوا خوفاً على مصالحهم وأولوياتهم. وقد ضمّ «اللقاء» 70 حزباً وهيئة مدنية والعديد من الأفراد، اجتمعوا حول سقف قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية. و «حركة حقوق الناس» وفق ما توضحه أوغاريت يونان، لا تسعى الى الزواج المدني كظاهرة جزئية، منفصلة عما عداها من أسس تتصل بجوهر النظام الطائفي في لبنان، فهي تنشط في الوقت عينه، من اجل التأثير في قضايا التعليم الديني المدرسي، وكتاب التاريخ، والتنشئة العنصرية- الطائفية، وقانون الانتخاب... وتطرح بدائل علمية وعملية جدّية، أكثر إنسانية ووطنية، للخروج من تلك المآزق المزمنة. أين أصبحت هذه الحملة اليوم؟ تؤكد يونان أن الرصيد الذي دأب «اللقاء» على تجهيزه منذ اليوم الأول له، بات عامل قوة في يد الحملة الوطنية، تستفيد منه في كل خطوة من خطواتها، وفي رصيدها: إعلانات تلفزيونية (30 سبوت متنوعاً أُنتجت بشكل شبه مجاني، بينها 5 نالت جائزة فينيكس للإعلان عام 1999 من إعداد شركة ساتشي اند ساتشي، وجزء منها بُث رمزياً ومجاناً على شاشتي LBC و MTV)، دراسات (أبرزها الدراسة المقارنة بين مشاريع قوانين الأحوال الشخصية المقترحة منذ الخمسينات، من إعداد «حركة حقوق الناس»)، وثائق للتوعية (ابرزها دليل مبسّط يتضمن 11 سؤالاً وجواباً حول الشائعات والمغالطات المتداولة شعبياً، وملف موثّق للناشط في الحملة، من إعداد الحركة أيضاً)، تواقيع (عريضة وطنية جمعت في السنة الأولى من الحملة فقط، أكثر من 60 ألف توقيع لمواطنين من كل لبنان)، تشكيل شبكة مدنية ومجموعات عمل في العديد من المناطق، وتحريك للرأي العام، حملة إعلامية متنوعة (في التلفزيونات والإذاعات والصحف والمجلات وعبر شبكة الإنترنت، لا تزال متواصلة بوتيرة تتناسب وتتطوّر الحملة)، مشروع قانون مشترك أُطلق في كتاب صدر في نيسان 1999 باسم «اللقاء» (نتج عن الدراسة المقارنة المذكورة سابقاً، وعن حلقة دراسية ضمّت وجوهاً خبيرة انبثقت عنها لجنة صاغت مشروع القانون وضمّت المحامين سمير الحلبي (الحزب التقدمي الاشتراكي)، حنا الناشف (الحزب السوري القومي الاجتماعي)، سامي الشقيفي (الحزب العلماني الديموقراطي)، صونيا ابراهيم عطيّة (حزب الكتلة الوطنية)، وأوغاريت يونان (حركة حقوق الناس). وقد جرى مؤخراً إدخال مشروع قانون «اللقاء» الى المجلس النيابي، بعد أن وقّع عليه وتبنّاه عشرة نواب (الحدّ الأقصى الذي يسمح به الدستور) من كتل وانتماءات متنوعة، حيث جمعهم «اللقاء» في ساحة النجمة في مؤتمر صحافي في الهواء الطلق (18/3/2002)، للإعلان عن التوقيع النيابي على اقتراح القانون وإيداعه الأمانة العامة للمجلس. وهذا ايضاً في رصيد الحملة. إذ جرى السعي، وفق ما أوضحته لنا يونان، ومنذ انتخاب المجلس النيابي الجديد في صيف 2000، الى تشكيل جو سياسي مؤاتٍ وداعمٍ للأحوال الشخصية المدنية الاختيارية. والخطوة الحالية تدور حول ترتيب حوارات ونقاشات هادئة، بعيداً عن الأضواء، مع أصحاب النفوذ على تنوّعهم، بهدف التوافق على الآليات العملية القادرة على إقرار هذا الحق، في مرحلة قريبة. والدراية هنا هي العنوان، والاحتمالات في نظرنا ليست مستبعدة، تضيف يونان، خصوصاً أن المسألة ستُقدّم ربما من خلال سلّة متكاملة من العناوين، حيث المطالبة بتشكيل الهيئة الوطنية لتجاوز الطائفية والمطالبة بالقانون المدني الاختياري للأحوال الشخصية، تسيران جنباً الى جنب. وأما اللافت في هذه الحملة الوطنية، فكان ما نُظّم من تحركات ميدانية: فمن عرسٍ مدني جماعي وحقيقي لستة كوبلات في مسرح المدينة (ايلول 1998)، الى اعتصام «حبل العريضة» أمام مقر مجلس الوزراء حيث نُشرت تواقيع اللبنانيين على 400م «حبل غسيل» عند المتحف (تشرين الثاني 1999)، إلى إعلان 18 آذار من كل عام «اليوم الوطني لحرية الاختيار»، تذكيراً بالإنجاز الذي تحقق في ذاك اليوم في مجلس الوزراء من العام 1998، الى المسيرة الأولى «مسيرة القرار» التي رفعت على 500 كرتونة نص قرار مجلس الوزراء آنذاك وعمّمته على الرأي العام وسلّمته رمزياً الى نواب عند بوابة المجلس النيابي (آذار 2000)، الى إبحار زوارق الى قبرص وعلى متنها 5 كوبلات يريدون الزواج مدنياً، في مشهدية احتجاجية على كورنيش المنارة، تبعها عرسٌ شعبي وزفّة تراثية برفقة المتنزّهين والمارّة هناك (آذار 2001). والهدف بالنسبة لنا، تقول يونان: تشريع الزواج المدني في أذهان الناس، شعبياً، وإخراجه من دائرة الظل ولغة المحرّمات، كونه جزءاً من تقاليد اللبنانيين المتزوّجين مدنياً (آلاف). ومشاركة الشباب في تلك التحركات، كانت العصب الأساس، برأيها، وهي الرسالة التي يُفترض ان يقرأها جيداً أصحاب القرار والمعارضون في آنٍ معاً. جو حداد، الناشط في الحملة، خطا أولى خطواته العملية في «حركة حقوق الناس» في هذا المجال بالذات «كانت تجربة أولى بالنسبة لي. وهاجسي في البداية كان أن أُقنع من حولي بفكرة الأحوال الشخصية المدنية واللاطائفية». بالنسبة الى جو، كانت الحوارات التي أجراها مع الناس في الشارع، هي الأغنى: «جعلتني أكوّن خطاباً خاصاً حول السلطة والطائفية والانتماء والاختلاف»... ويضيف: «كنا ننتظر اجتماعات الخميس الأسبوعية حيث العجقة والتنوع، وكلنا نتشارك في تنظيم التحركات وفي إضافة الأفكار... العريضة وأخبارها خلقت صداقات بيننا، والعمل بمجمله جعلنا نشعر بأننا مسؤولون، ليس فقط عن جمع التواقيع مثلاً، بل عن نشر الوعي وعن تطوير الدولة، بالتالي عن ضرورة أن يبني كل شاب منا خطابه وثقافته لكي يكون لمشاركته معنىً وبصمة إضافية. جو الذي التزم بالنشاط وتفاعل معه، يقول عن تجربته كمنسّق لتحرك 8 آذار 2001 (مشهدية كورنيش المنارة والزوارق) ان العمل الجماعي المنظّم والمبدع، أدى برأيه، الى إنجاح أدق التفاصيل. وعن تجربته في هذه الحملة كما في الحملة ضد الإعدام، حيث كان له دور، ليس فقط في التحركات، بل خصوصاً في التوعية في المدارس، يختصر جو ويقول: «التجربة بمجملها جعلتني أنتمي، وأتطور، وأطوّر في دوري... وصرتُ اليوم، وبعد أن كنتُ جديداً، في البداية، أحمل الصوت الى الإعلام والجامعات واللقاءات الشبابية، أينما كان». إلغاء الإعدام أما الحملة الوطنية من اجل إلغاء عقوبة الإعدام، فتختلف عن سابقتها، من حيث انطلاقتها وآلية عملها ومشاركة الناشطين فيها، وفق ما أوضحه لنا د.وليد صليبي (منسق الحملتين). فالحركة كانت قد انطلقت عام 1997 في تحرّك مناهض للإعدام، إثر تزايد الإعدامات (14 شخصاً أُعدموا بين 1994 و1998). والإعدام، بحسب صليبي، ما هو سوى جريمة قتل ولو تم على يد الدولة وبرعاية القانون، وهو واحد من تجليات نظام العنف وثقافة العنف في مجتمعنا، واللذين يتناقضان كلياً مع النهج اللاعنفي الذي تعلنه «حركة حقوق الناس» وتنشر ركائزه وعلى أكثر من مستوى، منذ انطلاقتها عام 1988 (مراجعة جريدة «الحياة» بتاريخ 18/11/1991 و18/12/1993). هذا، عدا أن سياسة تطبيق الإعدام في لبنان تتسم بالطبقية والاستنسابية، حيث كل الذين أُعدموا منذ الاستقلال ينتمون الى الطبقات الفقيرة، وحيث اختير من بين مئات المحكومين بالإعدام 51 شخصاً حصدتهم هذه العقوبة منذ 1947 (بحث إحصائي أجرته الحركة عام 1997 ونشرته في كتاب لصليبي بعنوان «عقوبة الإعدام تقتل»). وعلى رغم أن الحملة لم تنطلق من تجمّع للقوى المناهضة للإعدام، على غرار ما حصل بالنسبة للأحوال الشخصية، يؤكد صليبي أن الحركة آثرت أن تتشارك في العديد من محطات هذه الحملة مع العديد من الأحزاب والجمعيات والأفراد. وهذا ما تُرجم في التشاور الدائم مع عدد من ممثلي الهيئات الذين أغنوا خطوات الحملة باقتراحاتهم، في نظر صليبي، وقد تُوّج ذلك في رأيه، بالبيان الجماعي المناهض للإعدام، والذي اجتمعت حوله 58 حزباً وهيئة مدنية من كل لبنان (نيسان 2001). وفي المحصّلة، يرى صليبي أن حملة بهذا الحجم وبهذا الإلحاح، وهي تقوم للمرة الأولى في لبنان، بدأت تقطف ثمارها. فالقانون 302/94 تمّ إلغاؤه بنتيجة الحملة وتعاون عدد كبير من النواب، وذلك في 25/7/2001. وأحكام الإعدام التي كان قد أُعلن عن النية بالمباشرة بتنفيذها مع مطلع العام 2001 (وعددها 11)، قد جُمّدت. وهذا ما صرّح به علناً في وقت لاحق وزير العدل السابق سمير الجسر في مؤتمر صحفي له، والمساعي تسير باتجاه التخفيف من احتمالات الإعدام في إطار تحديث قانون العقوبات. ويضيف صليبي، أن الصدمة الضميرية التي حققتها التحركات الميدانية التي نُظّمت في إطار الحملة وبطرقٍ غير معهودة، راكمت في أذهان الناس والمسؤولين ما حثّهم على البدء بإعادة النظر في جدوى الإعدام. وهذا ما كنّا نتوخّاه من عملنا. وذلك منذ تحرّك أيار 1998، حيث اعتصمنا فجراً على مقربة من المشنقة المنصوبة في ساحة طبرجا لإعدام شابين معاً، معلنين الحداد على ضحايا الجريمة وضحايا الإعدام، الى اعتصام «وخز الضمير» قرب مقر مجلس الوزراء حيث نصبنا 8 مشانق خشبية وتحتها 8 جثث قطنية وشعار ينبّه «كي لا نصبح دولة الموت»، الى مسيرة حاشدة انتهت بفك حبل المشانق من قِبل مجموعة من الأطفال وإعادة تحويلها الى وسيلة للعب، الى التوعية داخل صفوف المدارس، ما مكّن 400 طفل من عدة مدارس من عقد مؤتمر صحافي في نقابة الصحافة تحدّثوا فيه ضد الإعدام، وفي طليعتهم ابنة الدركي الذي قُتل على يد شخصٍ تم لاحقاً إعدامه، الى استفتاء النواب وللمرة الأولى، من خارج المجلس، عبر استطلاع للرأي (استمارات خطية) نُشر إعلامياً وشمل 128 نائباً، كاشفاً عن ان 74 في المئة منهم يؤيدون فوراً أو تدريجاً إلغاء الإعدام، الى نشيدٍ أول ضد الإعدام كتبه الشاعر جوزف حرب ولحّنه نداء أبو مراد وأدّته «فرقة الفصحى العربية»، أثناء الاعتصام على مقربة من المجلس النيابي في 24 تموز 2001، احتفاءً بإلغاء القانون 302/94...». أما عن الإمكانات المادية، فالحملتان انطلقتا بجهود طوعية، وما زالتا مستمرّتين، بالحيّز الأكبر منهما، على هذا النحو. وبموازاة ذلك، تم السعي الى توفير بعض التمويل الضروري، فكانت مساهمات عينيّة من أفراد وهيئات محلية وعالمية، بلغ مجموعها، في ما يخص الأحوال الشخصية، وخلال السنوات الأربع (1998- 2002)، 41041 دولاراً صُرف منها 33044 دولاراً. هذا إضافة الى الخدمات الإدارية واللوجستية التي يوفّرها مركز الاجتماعات الدورية «للّقاء» (حركة حقوق الناس). وكان «اللقاء» قد فتح حساباً مصرفياً رسمياً خاصاً به في BNPI، بتواقيع لأربعة ممثلين عنه: د.عايدة الجوهري، د.غسان عيسى، السيدة سلمى صفير، ود.وليد صليبي. أما في ما يخصّ الحملة ضد الإعدام، فقد بقيت في إطار إمكانات الحركة، مع بعض الدعم المالي من الاتحاد الأوروبي (برنامج Mcda)، إضافة الى التشارك بين الهيئات لدى تنظيمها سويةً التحركات الميدانية (تقاسم الكلفة). لارا الصايغ، الناشطة في الحملتين، مع عشرات الشباب الذين يخفّ عددهم أو يكبر بحسب الظرف، ألقت «خطابها» الأول باسم حملة وطنية، حين جلست الى جانب مجموعة من ممثلي المنظمات الشبابية والأحزاب في مؤتمر صحافي في نقابة الصحافة- بيروت، تقرأ كلمة «اللقاء» (الأحوال الشخصية) لإعلان 18 آذار من كل عام «اليوم الوطني لحرية الاختيار»: «أردتُ أن أشارك في نشاط غير طائفي، وأعجبني جو العمل، فشاركت... واستفدت كثيراً من ناحية المعلومات وكيفية تنظيم التظاهرات واعتماد الوسائل اللاعنفية وفعاليتها». وأكثر ما أحبته لارا «انه عملٌ على الأرض وليس مجرد نظريات». وتعترف بأن مشاركتها في الحملة أخرجتها من العزلة السياسية في هذا المجتمع الطائفي: «تعلمتُ النقاش بانفتاح على الآراء، وتعرّفت على عدد كبير من اللاطائفيين، فزاد ذلك من عزيمتي وانخراطي في النشاط»... لارا تشعر ان الزواج المدني قضيتها هي، كما قضية المجتمع، وأن الحملة ستنجز تغييراً «وأنا متفائلة على رغم تجذّر الطائفية بين اللبنانيين».