تحرّكت الحكومة الجزائرية، بعد أن اتضح لها في شكل لم يعد يحتمل الشك أن اقتصاد البلد تراجع بسبب الانخفاض المهم الذي سجّلته صادرتها المشكَّلة أساساً من منتوجات الطاقة، الأمر الذي أدى إلى تدهور ميزانها التجاري، وتقلّص معدّل نموّها الاقتصادي المرتقب خلال عام 2009. تحرُّك الحكومة الجزائرية جاء أساساً من طريق القانون المالي الإضافي، إضافة إلى تدابير أخرى اتخذتها سابقاً لفرض قيود إضافية على الاستثمارات الأجنبية. فما مدى ملاءمة هذه التدابير وقدرتها على مجابهة التحديات المطروحة على الاقتصاد الجزائري؟ في الوقت الذي بدأت فيه بعض الدول، خصوصاً في آسيا، الإعلان عن وجود مؤشرات جدّية توحي بولوجها مرحلة المعافاة من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، لا تزال الجزائر في مرحلة بداية تطبيق برنامج مواجهة آثار الأزمة على توازناتها الاقتصادية الأساسية. هذا البرنامج لم يتم اعتماده رسمياً إلا بداية شهر غشت بعد مضي فترة تجاهل وإنكار لآثار الأزمة دامت شهوراً عدة. فجارتاها المغرب وتونس لم تتماديا في هذا السلوك التجاهلي إلا لفترة قصيرة، حيث وضع كلا البلدين برنامجاً لتجاوز تبعات الركود الاقتصادي العالمي منذ مطلع السنة الحالية. وما يلفت النظر في حالة الجزائر، لا يتوقف عند تأخر الإعلان عن هذا البرنامج وحسب، بل يمتد أيضاً إلى طبيعة الإجراءات المتخذة، ومدى ملاءمتها لمعالجة اختلالات الاقتصاد الجزائري التي تفاقمت بفعل تداعيات الأزمة. فبعد أن شدّدت الجزائر القيود على الاستثمارات الأجنبية، جاعلة من مساهمة الرأسمال المحلي بنسبة لا تقل عن 51 في المئة شرطاً إلزامياً، تعود الآن بروزنامة من التدابير للحد من الواردات، ومن الاستهلاك المحلي للبضائع المستوردة من طريق منع المصارف من تقديم القروض الموجّهة إلى الاستهلاك. وهي إجراءات تسببت في استياء عام في أوساط رجال الأعمال والمستهلكين على حد سواء. فما منطق هذه التدابير؟ وما التشخيص الذي تمّت صياغتها على أساسه؟ وما الآثار، المباشرة وغير المباشرة، المرتقبة لها على الاقتصاد الجزائري؟ يُفترض أن تكون هذه الأسئلة قد أجابت عنها الحكومة في شكل جدّي قبل أن تعلن عن هذه التدابير. لقد انطلق التشخيص، كما أكد وزير المال الجزائري، من أن مواد الطاقة تُمثّل ما لا يقل عن 97 في المئة من مجموع الصادرات و70 في المئة من المداخيل الضريبية. وهي أرقام يعرفها الجميع ولم يطرأ عليها أي تغيير منذ سنوات، ولا يمكن الاختلاف حول الضرورة الملحّة للجزائر لتنويع اقتصادها بالاعتماد المتوازن على قطاعات إنتاجية متعددة، وفك ارتباطها المُفرط بتقلبات أسعار مواد الطاقة في السوق العالمية. فكيف يمكن الربط بين هذا الهدف وبين الإجراءات التي اتخذتها الحكومة؟ أولاً، إن بلوغ هذا الهدف يجب أن يندرج في إطار استراتيجية ذات مدى زمني متوسط، بل وبعيد، قد يستغرق عقداً كاملاً أو أكثر، وبالتالي ليس منطقياً أن يكون قانون المالية المعدّل، الذي تم إعداده على وجه السرعة في عز العطلة الصيفية، الإطار المناسب ولا الزمن المناسب لذلك. فإذا كان تنويع مصادر الإنتاج والدخل في الجزائر ينخرط في رؤية محكمة وتصوّر جاد، فإنه يستحق أن يوضع في إطاره الصحيح، لا في قانون مالية استدراكي. ثانياً، إن الحد القسري للواردات وللاستثمارات الخارجية لا يمكن أن يحوّل الاقتصاد ويوجهه نحو تنمية تعتمد على الإنتاج المحلي، خصوصاً في غياب بيئة استثمارية ملائمة، وفي ظل عدم استقرار القوانين والتشريعات التي تحكم القطاع الخاص. ثم أن تدهور الميزان التجاري الجزائري يعود إلى المستوى الضعيف جداً للصادرات غير النفطية، وهي وضعية تحتاج إلى معالجة اقتصادية عبر إجراءات تحفيزية مناسبة، وإلى شراكة تكنولوجية منفتحة على العالم، لا إلى حلول بيروقراطية قسرية أثبتت التجربة عدم نجاعتها. ثالثاً، في الوقت الذي تشجّع فيه كل الدول الاقتراض المصرفي بما في ذلك القروض الاستهلاكية، من أجل دعم الطلب المحلي، فإن قانون المالية التكميلي في الجزائر اختار السير في الاتجاه المعاكس، ولم يكتفِ بالحد من القروض الاستهلاكية، على قلّتها مقارنة بالدول المغاربية الأخرى، بل فضّل حظرها بصفة نهائية. صحيح أن قرار الحظر يدعو إلى الاستغراب، إلاّ أن ما يثير استغراباً أكبر هو تعليل وزير المالية الجزائري لهذا القرار، إذ اعتبر أنه يتوخى، من جهة، حماية المستهلكين من المديونية المفرطة، ومن جهة ثانية الحد من استيراد السيارات الأجنبية وفتح المجال أمام تصنيع السيارات محلياً. والحقيقة أن كلا التعليلين غير مقنعين بما يكفي لتبرير الحظر التام للقروض الاستهلاكية. فإضافة إلى آثار هذا القرار على الطلب، فإن ثمة تساؤلاً جوهرياً حول دور البنك المركزي، والمصارف الخاصة في تدبير القروض والتأكد من قدرة المدينين على تسديد مستحقاتهم، وإلا أصبح لزاماً على الحكومة أن تمنع أشكال القروض كافة من أجل حماية المواطنين. أما موضوع السيارة المحلية، فلا يزال حتى الآن مجرّد مشروع على الورق، ولا تزال الحكومة في مرحلة التفاوض لإقناع إحدى شركات تصنيع السيارات العالمية أن تفتح وحدات إنتاجية في الجزائر، وفي أحسن الأحوال، فقد تمر سنوات عدة قبل أن يبدأ الإنتاج الفعلي لسيارات محلية. إن هشاشة بنية الاقتصاد الجزائري وما يترتب عن ذلك من اختلالات ليست وليدة الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها، وتحتاج الجزائر لتجاوز هذا الوضع إلى استراتيجية جادة لتنويع اقتصادها وجعله مستقلاً نسبياً عن تقلبات أسعار مواد الطاقة، لا إلى إجراءات جزئية، غير منسجمة، بل وتعطي الانطباع بأنها مرتجلة في بعض الأحيان. * باحث اقتصادي بمركز كارنيغي للشرق الأوسط، بيروت.