تبرز صور متناقضة عن الثورات والحراكات العربية بعضها مشجع وبعضها مؤلم وذلك نظراً إلى الثمن الكبير الذي تدفعه المجتمعات العربية في خضم التغير. وبما أن العرب لم يعرفوا حالاً شبيهة في السابق نسبة إلى ما يقع اليوم فمن الطبيعي أن يختبروا الكثير من الاضطراب والتوتر. الحال الجديدة تنهمر علينا بعد فشل معزز للقيادات العربية والأنظمة السابقة للثورات في قيادة إصلاح جاد يعفينا من آلام المصاحبة للثورات. ويقع التغير العربي الكبير في ظل مقاومة شديدة من قبل النخب الحاكمة العربية القديمة وأيضاً الجديدة. فكيف لا نتوقع مقاومة حتى الرمق الأخير كما عبر عن هذا المشهد الأسد والقذافي؟ فالنخب العربية كما الثقافة العربية من الصعب أن تقبل بالتنازل والتقاسم بيسر وسلاسة. فهي ترى خصومها ضمن معادلة صفرية لا تقبل القسمة. وتعاني النخب العربية الجديدة من بعض أبعاد هذه الإشكالية، فهي الأخرى نتاج ثقافة محددة تتواجه بتضاد مع مبدأ الاقتسام والتوافق. ومع ذلك ليست كل النخب العربية مثل الأسد والقذافي، فهناك آفاق للتقاسم بعد مقاومة ورفض وتمنع وصدام، وهناك من القادة من قدم تنازلات انطلاقاً من نظرة إلى المستقبل وضرورات الاستيعاب والإصلاح. وتتنوع بالتالي حالات التغير العربي. ففي سورية يتطور التغير في ظل دوي المدافع وهدير الطائرات مقابل تزايد قوة الشارع والثوار. لم يعد هناك في سورية حاجز خوف، ولم يعد هناك ما يفصل بين النظام والناس سوى الجيش والأمن والتعذيب، ومع ذلك يستمر هجوم الناس بلا توقف لانتزاع حرية مفقودة. في هذه المعادلة ستتغلب الكثرة والشجاعة على الأقلية المسلحة. هذا بالطبع مشهد رأينا مثله في التاريخ. وفي مصر كما في تونس يأخذ التغير بعداً آخر، فمنذ سقوط الرئيسين والمحيطين بهما صعدت قوى جديدة (الإخوان المسلمون) عبر الانتخابات. لكن الانتخابات لم تحل مشكلة السلطة العربية وثقافتها المأزومة. فعندما وصل تيار «الإخوان»، الذي لم يصنع الثورة بالأساس وانضم إليها أثناء اندلاعها، لم يكن مهيأ لإدارة مرحلة انتقالية معقدة، كما أنه أخطأ في اختزال الديموقراطية بالانتخابات في ظل غياب معظم شروط الانتخاب المحايدة ومن دون الالتفات إلى الإجماع الضروري في مرحلة انتقال بعد ثورة. لقد وقع الاختلاف على مكانة الحريات والعدالة الاجتماعية والحاجة إلى التمثيل العادل والانتخابات المتفق عليها والشراكة المقنعة مع قوى المجتمع في ظل مرحلة شديدة الحساسية. وصول الإسلام السياسي إلى الحكم هو أهم ما حصل في المرحلة الأولى من الثورات العربية. فمن غيرهم يستطيع أن يفوز ويحظى بدعم الجماهير وتعاطفها في المرحلة الأولى؟ ولكن روليت الثورة تعود وتؤكد بأن من يتصدر المشهد في البداية قد لا يكون نفسه وبتركيبته نفسها وبنيته في نهاية المشهد. وإن من يأتي في البداية سيكتوي بنار التغير وبحدة المطالب الهادفة لتغير طبيعة الدولة والسلطة في الواقع العربي. في هذه المرحلة الشاقة من الحراك العربي يسعى العرب لدولة رحيمة. لهذا يفتحون الأبواب الموصدة حول مكانة الشعب، وتثار الأسئلة حول تعسف الأمن في التعامل مع المعارض السلمي، وعن مدى استقلال القضاء، وتطبيق فصل السلطات، ودور الجيوش في السياسة وعلاقة الدين بالسياسة والأقليات بالأغلبيات وعمق العدالة الاجتماعية وقدسية الحريات وقيم الكرامة والتنمية. ونظراً إلى طبيعة المرحلة والمطالب المطروحة لن ينجح أحد في مصر وفي تونس في فرض إرادته على الآخر إلى أن يصل الجميع إلى حال الإرهاق المتبادل الذي يفرض التقاسم والإجماع على المرحلة الانتقالية بما يتجاوز صندوق الاقتراع. يجب أن تصل القوى الرئيسة إلى حال إجماع على أهمية اختراق روح الدولة بما يطور مؤسساتها والرقابة عليها ويعيد تشكيل ثقافتها في ظل نظرة ثاقبة لاحتياجات المجتمع. إن الصراع الراهن في الساحة العربية محاولة جريئة لتطويع الدولة وتحويلها إلى حال أقل تدخلاً في حياة الأفراد وأكثر حيادية وتركيزاً على العدالة الاجتماعية والإنجاز واحترام التنوع والتداول السلمي على السلطة. لكن الأهم في مصر وتونس وفي دول العالم العربي كافة بما فيها التي لم تقع فيها ثورات، هو نمو الحركات الشبابية العربية. لقد نشأت الحركات الشبابية في جميع المجتمعات العربية على وجه العموم وسواء كانت تلك المجتمعات قد اختبرت ثورة مثل مصر وتونس وليبيا واليمن أم مطالب إصلاحية كما هو حاصل في الأنظمة الأخرى. هذه الحراكات الشبابية تسعى في الجوهر إلى تغير المعادلة ضمن المعادلة وللوصول إلى صيغة معدلة لما هو قائم. ففي الدول الثورية تريد هذه الحراكات تحقيق أهداف الثورة وتطوير الواقع السياسي، أما في الدول الأخرى فهي تسعى لإصلاح النظام وتطوير الحقوق والدساتير وآليات الانتخاب باتجاه أنظمة دستورية برلمانية منتخبة. في هذه الأجواء الجديدة ترتقي الحراكات الشبابية سلم التغير والاحتجاج في الشارع والرقابة على السياسة، وتحتج أمام القضاء عندما يغالي في عقوبات العمل السياسي والرأي، كما تحتج وتتظاهر وتتجمع بصورة سلمية أمام الأجهزة الأمنية عندما تسجن أصحاب الرأي. وتطرح الحركات الشبابية تصورات جديدة فتؤسس أحزاباً وقوى سياسية وتكتب برامج، ما يعكس جوهر تمردها على الطريقة السياسية التقليدية وعلى الاحتكار السياسي للسلطة. هناك إذاً في القاعدة الشبابية للمجتمعات العربية وعي جديد يتشكل من خلال التواصل الاجتماعي والحوارات المفتوحة، ويصاحب هذا الوعي فهم جديد للحريات ولمعنى المعارضة والنقد والمشاركة. لقد دخلنا عصر الرقابة الشعبية على سلوكيات الدولة وقراراتها ولم يعد هناك شيء مقدس لا يطاوله النقد الموجه للدولة، وذلك لأن المواطن لم يعد يتقبل تخبطها وضعفها وركاكة قراراتها وارتجاليتها وعمق احتكارها وتفردها وحرية تصرفها بالثروات والإمكانيات. لقد إنتزعت هذه الحركات الشبابية على تنوعها واختلاف تجاربها حقها في العمل السياسي في جميع الدول العربية وحقها في طرح ما تريد، مما يثبت بروز جيل جديد يسعى لقيادة عملية التغير التاريخية التي تمر بها المجتمعات العربية. ولن يستعيد الجيل الصاعد ثقته بالسياسيين أكانوا معارضين أم حكوميين أم من التيارات الدينية والليبرالية إن لم تقع حالة إعادة إعتبار لعلاقة القيم الاخلاقية بالسياسة، وبحيث يعود التركيز على المساءلة والشفافية وتقبل النقد وعدم الالتصاق بالكرسي إلا لفترات محددة. بمعنى آخر: هذه حركات ضد الإقصاء ولكنها بنفس الوقت في مواجهة تزداد وضوحا مع الإحتكار السياسي وقوى الفساد وتسعى لفتح مسام الحياة السياسية في إطار تنمية المجتمع وتعميق وعيه بقوته وإمكانياته وقدرته على إنجاز التغير. لقد علمتنا الثورات كما علمتنا الحراكات العربية المختلفة في الدول التي لم تقع فيها الثورات، أن السكون لا يعني غياب الحركة أو عدم وجود مأزق. الهدوء على السطح لا يعني أن الوضع لا يحتوي تفاعلات معقدة غير ظاهرة تحت السطح، تماماً كما أن هدوء سطح البحر لا يعكس ما هو قائم في أعماقه وتحت سطح الماء. لقد تبين في الدول العربية أن السكون فرض بواسطة القبضة الأمنية والقوانين المكبلة للحريات والسياسات الاقتصادية التي تشتري الاستقرار لمدد زمنية متفاوتة. لكن جزءاً آخر من السكون الظاهر على سطح الوضع العربي ارتبط بالخوف من التغير الذي ساد المجتمعات العربية في العقود السابقة وذلك في ظل توزيع موارد الدولة على الأنصار وحرمان المعارضين من الموارد ما ساهم في استشراء الفساد. ويمكن القول إن الفساد ساهم في الاستقرار الشكلي لأنه جعل أفراداً وفئات تدافع بقوة عن الوضع الراهن بسبب ارتباطاتها ومصالحها الضيقة. لكن هذا الفساد الذي ساهم في الاستقرار ساهم وبصورة أكبر في ضرب مناعة الأنظمة أمام الشعوب، لهذا فالفساد هو بامتياز كعب أخيل النظام العربي. إن المجتمعات عبر احتكاكها بطريقة عمل السلطات هي أول من يكتشف مدى فسادها وهشاشتها على رغم قوتها الأمنية. في النهاية إن قوة الأنظمة غير مشتقة من أسلحتها وجيوشها وأجهزتها الأمنية كما يؤكد لنا المثل السوري، بل إنها مشتقة من شرعيتها ومدى قبول الناس بها. ومتى أصبح الصراع مكشوفاً بين النظام السياسي أو الحكومة التي تمثله وفئات رئيسة في المجتمع يبدأ النظام السياسي بإساءة استخدام سلطاته ما يضيف إلى الأزمة أبعاداً جديدة ويجعل الخلاف ذا عمق مختلف. يمكن القول إن كل نظام سقط في الربيع العربي سقط في الواقع قبل أكثر من عشر سنوات عندما بدأت بعض القوى تصارعه بوسائل سلمية وشعارات هادئة. لكن رد فعل النظام التعسفي على مدى عشر سنوات في ظل الامتناع عن الإصلاح بنى حالاً من المعارضة الصلبة التي تحولت إلى ثورة عند أول منعطف. السقوط يبدأ من المقدمات ويتأثر بالوسائل والقرارات التي يتبعها النظام السياسي ما يساهم في جلاء الغشاوة النفسية عن مؤيديه وقواعده الشعبية ومعارضيه في الوقت نفسه. هنا، يصبح من كان مع النظام بالأمس معارضاً له اليوم ومن كان معارضاً يصبح أكثر تمرساً في معارضته، ومع الوقت تتفكك أعمدة النظام. ويصح القول إن التغير يبدأ في عقول الناس وأخطاء الأنظمة قبل أن يبدأ في الشارع والتظاهرات، فهذه التعبيرات تمثل آخر المراحل في عملية التغير. وترتفع وتيرة التغير وضوحاً عندما تسعى فئة من النخبة إلى إقصاء كل من يختلف معها، وهذا يقود إلى حال من التطرف في تصنيف الآخرين وإقصاء النخب المعارضة إضافة إلى إقصاء تلك النخب التي كانت للأمس القريب جزءاً من النظام السياسي. في هذه المرحلة تتعمق الروح القمعية للسلطة، لكن بمجرد بروز هذه الروح يبدأ العد العكسي للنظام السياسي وتتفشى الخلافات بينه وتنشأ تحالفات جديدة بين المجتمع وبين المعارضين الذين يزدادون إصراراً على إنجاز التغير ومقاومة سعي السلطة لهزيمتهم. إن الإقصاء عندما يصبح أكثر توحشاً يخلق مقاومة أكثر عمقاً تؤدي بطبيعة الحال إلى تحالفات جديدة بين المجتمع وحراكاته السياسية وبين نخب عدة ترفض السياسات الجديدة ممن كانوا جزءاً من النظام حتى الأمس القريب. هذا الوضع قد يتطور في فترات تتميز بالسرعة في بعض الدول وقد ينمو على مدى سنوات في ظل تبني المعارضين سياسة النفس الطويل، وقد يتحول هذا الوضع لمصلحة إصلاح يحافظ على النظام السياسي، لكن نجده في دول أخرى وقد تحول إلى الثورة وتغير النظام السياسي كما حصل في مصر وتونس. ما يقرر الإصلاح أو عدمه مرتبط بالتاريخ، وإن كان النظام ملكياً أو جمهورياً، كما أن الأمر مرتبط بمدى العنف المستخدم في الصراع، ومرتبط بمدى قدرة فئات من النخبة السياسية (المغرب مثلاً) على تفهم المطالب الشعبية قبل دخولها في طريق لا عودة منه. إن حقن دماء الناس من قبل الأنظمة وعدم التعسف هو أحد أهم المداخل لإبقاء الحراكات الشبابية والمعارضة في إطار التغير الذي يتفادى المس بقواعد رئيسة للنظام. لقد بدأت مرحلة التغير العربي أو الاستقلال الثاني للعرب مع الثورتين التونسية والمصرية. هذا الحدث هو رأس جبل الجليد. وفي هذا الزمن نمر في ممرات لا زالت في طور التكوين. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت