لا شك في أن استقالة البابا بنديكت السادس عشر بابا الفاتيكان سيكون لها الكثير من التداعيات، على العديد من أوجه الحياة للمذهب الكاثوليكي وقياداته ورموزه وأتباعه على الصعيد العالمي بأسره. ويندرج ضمن هذه الأوجه بالتأكيد موضوع ذو أهمية لنا في العالمين العربي والإسلامي، يتعلق بالحوار الإسلامي/ المسيحي في سياقه العام، والحوار المتوقف منذ سنوات ليست بالقليلة بين الفاتيكان والأزهر الشريف خصوصاً. فالثابت أن الحوار الإسلامي المسيحي في عمومه والحوار بين الفاتيكان والأزهر الشريف، قد تأثر سلباً وبدرجة كبيرة خلال فترة تولي البابا المستقيل مقاليد الكرسي البابوي، وذلك إلى الدرجة التي أعلن فيها مثلاً الأزهر عن تجميد آليات الحوار مع الفاتيكان كلية. كما أن هذا التدهور يرجع في جزء كبير منه، إن لم يكن في الأساس، إلى تصريحات ومحاضرات ومواقف للبابا المستقيل، اعتبرها الطرف الإسلامي، على اختلاف أطيافه، مسيئة إلى الدين الإسلامي وإلى الرسول الكريم، باعتبارها سعت لتكريس ادعاءات موجودة في الدول الغربية منذ قرون، وتجددت بقوة بعد انتهاء الحرب الباردة في التسعينات، تسعى للربط بشكل عضوي بين جوهر الدعوة الإسلامية وتعاليم الرسول وبين العنف والحض عليه وممارسته، وفق ادعاء أصحاب هذا الطرح. ويزداد وضوح الدور السلبي الذي لعبته تصريحات البابا المستقيل في الإساءة لمسار الحوار، عندما نضع في الاعتبار أمرين: أولهما يتعلق بالمقارنة بين مواقفه في هذا الشأن وبين سابقه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني ودوره في الحوار الإسلامي المسيحي، والثاني يتصل بالمقارنة بين تعثر الحوار في عهد البابا المستقيل وبين استمرارية وتطور الحوار الإسلامي مع طوائف مسيحية ودينية أخرى في تلك الحقبة نفسها. فالمؤكد أنه بالرغم من أي تحفظ قد يكون لدى هذا الطرف أو ذاك، حول الدور الذي لعبه البابا يوحنا بولس الثاني، كرأس حربة للهجمة الغربية، تحت قيادة الولاياتالمتحدة، منذ الثمانينات ضد الشيوعية في أوروبا، وتحفظات البعض، بما في ذلك دوائر كنسية كاثوليكية في أميركا اللاتينية وغيرها، تجاه مواقفه المناهضة للاهوت التحرير، ربما أيضاً بدعم من الولاياتالمتحدة، فالحقيقة التي تعنينا تتمثل في أن هذه الحملة ضد الشيوعية دفعت البابا الراحل للتحدث عما أسماه وحدة المؤمنين لمجابهة مخاطر انتشار الإلحاد، وهي دعوة، أياً كانت منطلقاتها ودوافعها الحقيقية، حتمت عليه قدراً من الحوار والتفاهم مع المرجعيات الإسلامية الرئيسية، وفي المقدمة منها بالطبع الأزهر، كما أنه خصص أحد كبار مستشاريه لموضوع الحوار مع الدين الإسلامي وقياداته وأسس لجنة دائمة بالفاتيكان معنية بمتابعة هذا الملف، الأمر الذي لقي بدوره ارتياحاً وترحاباً من الجانب الإسلامي. وهذا التوجه للبابا الراحل تناقض بدرجة كبيرة مع توجه خلفه المستقيل الذي عين مستشار البابا لشؤون الحوار مع العالم الإسلامي سفيراً لدى مصر، وبدا أنه أكثر اهتماماً بالحوار بين الطوائف والكنائس المسيحية المختلفة وبين القيادات الدينية المسيحية واليهودية، باعتبار الديانتين تنتميان لإرث ثقافي واحد وتعتبر كل منهما الامتداد للأخرى، على حساب الحوار مع الدين الإسلامي، كما تمسك برفضه تلبية مطلب الاعتذار عما ورد على لسانه في المحاضرة التي ألقاها في ألمانيا منذ سنوات متضمنة حديثاً سلبياً تجاه الإسلام والرسول الكريم محمد، وهو اعتذار اعتبرته أطراف إسلامية ضرورياً لإصلاح الخلل، واعتبرته أطراف إسلامية أخرى، مثل الأزهر، شرطاً مسبقاً لإحياء الحوار. أما الأمر الثاني، فهو أن التراجع أحياناً والجمود أحياناً أخرى، والذي لحق بالحوار، لم يسر على الحوار بين العالم الإسلامي ومؤسسات دينية أخرى، سواء مسيحية، أو حتى يهودية غير إسرائيلية في بعض الحالات، أو تنتمي إلى أديان وعقائد أخرى خارج سياق الأديان الإبراهيمية الثلاثة. وإذا شئنا التركيز بوجه خاص على الكنائس المسيحية الأخرى، نذكر مثلاً استمرار، بل توسع وتنوع، مجالات وصيغ ومبادرات الحوار بين العالم الإسلامي وكنيسة كانتربري البريطانية الإنجيلية، بخاصة تفرع هذا الحوار، في حالة الأزهر، إلى مجالات مهمة مست موضوعات التعليم والإعلام والنشاط الثقافي والفني وغير ذلك. وفي إطار هذا الحوار، مثلاً، ظهرت «مبادرة كامبريدج» التي شارك فيها على مدار السنوات الماضية أسقف كانتربري وفضيلة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية المنتهية ولايته. ولكن ماذا عن المستقبل؟ الواقع أن البابا الجديد سيكون عليه العبء الأكبر في إعادة الحياة، وربما لاحقاً الدفء، إلى علاقات الفاتيكان مع العالم الإسلامي، وذلك عبر رسائل انفتاح على الإسلام وأتباعه وعلمائه، وعبر تخير الوسيلة المثلى للتنصل من تصريحات ومواقف سلفه التي سببت الأزمة في علاقات الفاتيكان مع العالم الإسلامي. ولكن لا شك في أن الأرضية التي سيرتكز عليها الحوار مجدداً ستكون مختلفة جذرياً عما كانت عليه في الثمانينات. فالحرب ضد الشيوعية أو الإلحاد لا تصلح اليوم لذلك في ضوء أن الفاتيكان ذاته فد فتح حواراً منذ سنوات مع الحزب الشيوعي الصيني مثلاً، وأن الطابع السياسي لهذه التعبئة فقد مبرر وجوده بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وانتهاء الشيوعية في شرق أوروبا ووسطها. ولكن ما يصلح اليوم هو أجندة عريضة تتضمن ما تحمله الديانتان من قيم مشتركة تدعو للتسامح واحترام الآخر والتحاور معه بهدف فهم منطلقاته وليس بهدف فرض آراء عليه، والتخلص من التنميط الثقافي والإعلامي السلبي للآخر الديني، ورفض الحض على الكراهية أو التحريض على العنف أو السعي لإقصاء الآخر أو تهميشه. وعلى الجانب الآخر، يتعين أن تشمل هذه الأجندة السعي للحوار بهدف إيجاد حلول للتحديات المشتركة التي تواجه المجتمعات الإنسانية اليوم من انتشار للفقر والأمراض المعدية والأوبئة والجريمة المنظمة وتغير المناخ وآثاره السلبية والاستنزاف المتسارع لموارد الطاقة وللأراضي القابلة للزراعة والتضاعف المتزايد للهوة بين من يملكون ومن لا يملكون على الصعيد العالمي، وغير ذلك من تحديات مهمة لا شك في أن الحوار الإسلامي المسيحي، مع الثراء والتنوع الموجود داخل كل من الجانبين، سيساهم إيجابياً في محاولة التوصل إلى تجاوزها. * كاتب مصري.