ستانلي فيش، هو أستاذ النقد والنظرية الأدبية والعلوم الإنسانية والقانون في جامعة فلوريدا الدولية في ميامي، والعميد الفخري لكلية الفنون الحرة والعلوم في جامعة إلينوي في شيكاغو. ولد عام 1938، وحاز البكالوريوس والماجستير في اللغة الإنكليزية، وأخيراً حصل على الدكتوراه عام 1962 من جامعة ييل العريقة والمرموقة في اللغة الإنكليزية أيضاً. دَرَّسَ أيضاً في جامعة كاليفورنيا- بيركلي، وجامعة جونز هوبكنز وجامعة ديوك. وهو مؤلف ل15 كتاباً. ويوصف فيش في دوائر الأدب بمنظّر «ما بعد حداثي». وهو كاتب منتظم في صفحة الرأي في كل من «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال». وهنا يستعرض فيش في مقالة نشرتها ال«نيويورك تايمز» كتاب تلميذه البروفيسور فرانك دوناهِيو المعنون «آخر البروفيسورات: الجامعة كشركة، ومصير الدراسات الإنسانية». ومحتوى الكتاب واضح من عنوانه. فرانك دوناهِيو، هو أستاذ مشارك للغة الإنكليزية في جامعة ولاية أوهايو. حصل على بكالوريوس الآداب في اللغة الإنكليزية من جامعة برانديز عام 1980، ودكتوراه في التخصص نفسه من جامعة جونز هوبكنز عام 1986. والكتاب المذكور هو ثاني كتبه، ويقع في 176 صفحة، وصدر عام 2008، عن مطبعة جامعة فوردهام، وأعيد طبعه ثلاث مرات حتى الآن. ويتكون الكتاب من خمسة فصول: أولاً: الخطابية، التاريخ، ومشكلات الإنسانيات؛ ثانياً: التنافس في الأكاديميا؛ ثالثاً: تآكل التثبيت الأكاديمي؛ رابعاً: بروفيسورات المستقبل؛ خامساً: البرستيج وحسد البرستيج. والآن مع عرض البروفيسور ستانلي فيش لكتاب تلميذه فرانك دوناهِيو، ونلفت النظر إلى أن فيش يستخدم السخرية في بعض عباراته بصورة ضمنية ماكرة لا تكاد تُلاحظ. آخر البروفيسورات في الأعمدة السابقة وكتابي الأخير جادلت أن التعليم العالي عندما يفهم بشكل صحيح، يتميز بعدم وجود علاقة مباشرة مُصممة ومقصودة داخله بين أنشطته من جهة، وآثاره القابلة للقياس في العالم من جهة أخرى. هذه فكرة قديمة جداً تلقت إعادة صياغة دورية عبر الزمن. هنا عبارة للفيلسوف الإنكليزي مايكل أوكيشوت (1901-1990)، تقدم شرحاً وافياً لهذه الفكرة: «هناك فارق مهم بين التعلم الذي يُعنى بدرجة من الفهم اللازمة لممارسة مهارة، والتعلم الذي يركز بجلاء على مجرد «مشروع» أو «مؤسسة» للفهم والشرح». ولكن: فهم وشرح ماذا؟ الجواب: فهم وشرح أي شيء طالما «لا» يتم تنفيذ هذه العملية لغرض التدخل «بصورة مفيدة» في الأزمات الاجتماعية والسياسية لتلك اللحظة التاريخية، أي طالما أن هذا النشاط لا يعتبر مفيداً من الناحية العملية وليس له قيمة ومساهمة في شيء أكثر أهمية من مجرد وجوده بنفسه. هذه النظرة للتعليم العالي ك«مشروع» أو «مؤسسة» تتميز ب«عدم فائدة» متحققة تم تحديها دائماً، والمساجلة بين أنصارها وأولئك الذين يجادلون من أجل جامعة ذات تجربة أكثر انخراطاً مع الواقع العملي لا تزال حية ويبدو أنها ستستمر. المسألة التي تتجنبها مثل هذه المساجلات هي ما إذا كانت المثالية الأوكيشوتية، (نسبة إلى الفيلسوف مايكل أوكيشوت)، التي أشار إليها قبله، من ضمن آخرين كل من: أرسطو، كانط، وماكس فيبر، يمكن أن تزدهر حقاً في المشهد التعليمي اليوم. قد يكون من الممتع المجادلة لصالح مزاياها كما فعلت، ولكن هذه المجادلة قد تكون مجرد «فذلكة أكاديمية» - بالمعنى المذموم لكلمة «أكاديمية» - إذا لم تكن هناك مساندة من عالم الواقع الحقيقي الذي ينأى بنفسه عنها بصورة خطابية. ولكن هل أمامها فرصة للنجاح في ظل المناخ الأكاديمي السائد اليوم؟ في كتابه الجديد، «آخر البروفيسورات: الجامعة كشركة، ومصير الدراسات الإنسانية»، يسأل البروفيسور فرانك دوناهِيو، وهو بالمصادفة تلميذي سابقاً، هذا السؤال ويجيب ب«كلا». يبدأ دوناهِيو بتحدي الإعلانات المتكررة أن تعليم الفنون الحرة بصفة عامة والعلوم الإنسانية بصفة خاصة يواجه «أزمة»، وهي كلمة «مرعبة» يمكن أن تشير إلى تعطل الحالة الطبيعة لشؤون الدولة، واحتمال عدم استعادة النظام الطبيعي للأشياء. يقول دوناهِيو: «إن هذه الرؤية لاستعادة الاستقرار السابق هي وهم»، لأن الظروف التي يسعى العديدون إلى استعادتها (أي أقسام دراسات إنسانية نابضة بالحياة ويديرها بروفيسورات مثبتون أكاديمياً، من النوع الذي يعشق «متعة العقل»، (كمناقشة الكتب المهمة مع طلاب فاتنين في مكان هادئ)، قد تلاشت واندثرت إلى حد كبير. وباستثناء بضع جامعات خاصة لا يدخلها إلا الأثرياء (وتعمل تقريباً مثل متاحف)، فإن البحوث والدراسات الإنسانية في حد ذاتها أصبحت بالفعل تراثاً من الماضي. ويتوقع دوناهِيو أنه خلال جيلين أو ثلاثة أجيال، «سيشكل المتخصصون في الإنسانيات نسبة ضئيلة لا تكاد تذكر من القوى العاملة التعليمية في جامعات أميركا». كيف حدث ذلك؟ وفقاً لدوناهِيو، فإن هذا التوجه يحدث منذ فترة طويلة، على الأقل منذ عام 1891، عندما هنأ رجل الصناعة الأميركي الشهير أندرو كارنيغي (1835-1919)، الخريجين من كلية بيرس لإدارة الأعمال، لكونهم «انشغلوا بالكامل ليتخصصوا في معرفة اختزال الكتابة واستعمال الآلة الكاتبة، بدلاً من إضاعة الوقت في تعلم اللغات الميتة». وكان رجل الصناعة ريتشارد تيلر كرين (1832-1912) أكثر تحديداً عندما رفض في عام 1911، ما يسميه بروفيسورات الإنسانيات «متعة العقل». يقول كرين: «لا أحد لديه القدرة على تذوق الأدب له الحق في أن يكون سعيداً»، لأن «الرجال الذين تحق لهم السعادة... هم أولئك المفيدون فقط». التعارض بين هذا الرأي ورأي خلفاء الشاعر والناقد البريطاني ماثيو أرنولد (1822-1888)، بأن الشعر سينقذ العالم لا يمكن أن يكون أكثر وضوحاً. ولكن دوناهِيو ينصحنا ألا نفكر في هاتين الرؤيتين وكأنهما مغلقتان في صراع نتائجه غير مؤكدة. الرؤية المتجذرة في «أخلاق الإنتاجية والكفاءة» - يقول دوناهِيو - قد انتصرت بالفعل؛ والدليل على ذلك أنه في الكليات والجامعات ذاتها التي تحتفي جداً ب«متعة العقل»، فإن الأوضاع المادية لمكان العمل تم تصميمها من خلال نموذج أعمال يزدريها. أفضل دليل على هذا هو تقلص عدد أعضاء هيئة التدريس «الدائمين» في مقابل ارتفاع الأعضاء «غير الدائمين» مثل: بروفيسور موقت أو بروفيسور بدوام جزئي، الأقرب إلى الباعة المتجولين من المهنيين الأصيلين. خلل غير قابل للتصحيح بروفيسورات العلوم الإنسانية يفضلون اعتبار هذا الخلل موقتاً ويتحدثون عن سبل معالجة ذلك، ولكن دوناهِيو يصر على أن هذا التطور الذي لم يُخطط له ولكنه يمضي الآن على قدم وساق، غير قابل للتصحيح. لم تعد الجامعات «توظف الأساتذة الأكثر خبرة، وإنما الأرخص أجراً». وبسبب الضغوط المالية المتزايدة، أصبح الآن الأساتذة المثبتون أكاديمياً أو الذين يسيرون نحو التثبيت يشكلون ما نسبته 35 في المئة من قوة العمل التربوي فحسب، وحتى «هذا العدد القليل آخذ في الانخفاض بصورة مطردة». وبعد أن يتم تعيين الأساتذة الموقتين للتعامل مع تزايد الكتلة الطلابية «والكتلة الطلابية تتزايد دائماً!» يجد مخططو موازنة الجامعة صعوبة في الاستغناء عن التوفير والمدخرات التي باتوا يدمنونها «بسبب رخص أجر الأستاذ الموقت مقارنة مع الأستاذ الدائم المثبت أكاديمياً»، و«نتيجة لذلك، تكاثرت بسرعة قوة عاملة موقتة، لتصبح حقيقة مهمة في الحياة الأكاديمية». ما يتردد في الجامعات التقليدية من حيث التظاهر بالكلام من دون الفعل (أي الكذب) باحترام الفنون الحرة، أصبح هو السياسة الصريحة للجامعة التي تعمل - كشركة - من أجل الربح، والتي لا تقوم بأي ادعاء بأنها تُثمن وتُقدر ما اصطلح على تسميته ب«التعلم العالي». رجل الأعمال الأميركي جون سبيرلنغ (م. 1921)، مؤسس مجموعة «أبولو» التي تنشئ مؤسسات تعليمية بقصد الربح والتي أسست جامعة فينيكس، هو شخص ممتع لصراحته: «المجيء إلى هنا ليس مجرد طقس للعبور. نحن لا نحاول تطوير نظم القيم أو المساعدة في ممارسة ما يسمى بمتعة العقول»! يا له من هراء! الجامعة الربحية هي النهاية المنطقية للتحول من نموذج التعليم الذي يرتكز على بروفيسور بعينه يقوم بتقديم بصيرة وإلهام يحققان متعة العقل، إلى نموذج يبدأ وينتهي مع حتمية توفير المعلومات والمهارات اللازمة للحصول على عمل. في هذا النموذج الأخير، طريقة التوصيل - قرص مدمج، شاشة الكومبيوتر، فيديو - لا تهم ما دام تسليم المعلومة يحدث. وبخصوص وجود أساتذة من البشر في هذه العملية من عدمه، فإن مؤهلاتهم ومنشوراتهم (إذا كانت لديهم أية منشورات)، هي غير ذات صلة في المحصلة النهائية، لأنهم ليسوا سوى «كائنات لتوصيل معلومات». سبيرلنغ يعي صعوبة تحقيق الاعتراف بمؤسسته كوكيل ل«معارك ثقافية بين المدافعين عن 800 عام من التقاليد التعليمية «والدينية إلى حد كبير»، والابتكار الذي يقوم على أفكار السوق ك«الشفافية والكفاءة والإنتاجية والمساءلة». لقد انتصرت هذه الأفكار الآن (كارنيغي وكرين انتصرا بالفعل)، وهذا يعني، كما يخلص دوناهِيو «أن جميع الحقول التي اعتبرت «غير عملية»، مثل التاريخ والجغرافيا والفلسفة والفن والأدب، ستواجه من الآن فصاعداً خطراً داهماً بأن تعتبر أيضاً غير ضرورية». وكنتيجة طبيعية لهذا التطور الخطر «سيأتي وقت يتم النظر إلى البروفيسورات من الجميع، في الجامعة وخارجها، ككائنات غريبة وشاذة لا يمكن تحمل تكاليفها». في مقدمته، يخبرنا دوناهِيو، أنه «لن يقدم حلولاً للمشكلات التي يصفها». ولكنه في النهاية، لم يستطع مقاومة التوصية بعمل شيء، إذ نصح مناصري الإنسانيات أن «يكتسبوا معرفة تفصيلية وثيقة عن كيفية عمل الجامعة»، لأنه «فقط من خلال دراسة تاريخها المؤسسي - للبحوث العلمية والتثبيت الأكاديمي والمستوى الأكاديمي والمنهج المتغير باستمرار - يمكننا أن نعد أنفسنا للمستقبل». ولكنه - وهذا يحسب له - ليس لديه أدنى أمل أن هذا المستقبل الذي سنواجهه قد يكون فيه مكان لنا. يعتقد الناس أحياناً أنهم ولدوا قبل أو بعد زمنهم الملائم بكثير. ولكنني بعد قراءة كتاب دوناهِيو، شعرت أن توقيت ولادتي كان مصيباً، لأنه يبدو أنني حصلت على مهنة أحبها لن تكون متاحة لي لو ولدت بعد 50 عاماً. أعتقد أنني محظوظ.. أليس كذلك؟!