تحول السابع عشر من فبراير إلى ذكرى ثورة في ليبيا، بعد أن ارتبط التاريخ بإبرام معاهدة الاتحاد المغاربي في مراكش عام 1989، لكن رياح التغييرات التي هبت على بلدان الشمال الإفريقي، لم تقلع جذور الحذر إزاء مسار تجربة وحدوية عالقة، ولا هي دخلت حيز التنفيذ برهان استراتيجي لا بديل منه، ولا هي اقتلعت من المشاعر والعقول. حدثان بارزان على الأقل تصادفا وانبثاق الاتحاد المغاربي، فالعالم كان على موعد مع ثورة إيديولوجية تمثلت في انهيار المعسكر الشرقي، وانسحب انعكاسها على منطقة الشمال الإفريقي في صورة بروز اقتصاد السوق ونسيان خلافات الحرب الباردة والاتجاه نحو التكتل، ما ساعد المغرب والجزائر تحديداً على قطع الخطوات الأولى نحو انفراج لم يدم طويلاً. أما الحدث الثاني، فهو انطلاق جذوة الربيع العربي من تونس ثم ليبيا، من دون إغفال تأثيره في الأوضاع في المغرب والجزائر وموريتانيا. لكن الاستحقاقين غيرا مفاهيم وشعارات وخلاصات، ولم يغيرا شيئاً في الأوضاع العالقة لاتحاد مغاربي، لم يبق منه سوى أطلال بناء لم يكتمل. ومثل مناسبات سابقة ستغرد العواصم المعنية بتمنيات تردد كالعادة أن البناء المغاربي خيار استراتيجي، مع أن التعاطي ورهاناته لا يفيد بتصنيفه ضمن الضرورات والمزايا. ففي نهاية المطاف تتعايش العواصم المعنية مع خيار اللامغرب كما دأبت على ذلك بوجوده أو عدمه، طالما أن لا شيء تحقق، على طريق الدمج الاقتصادي والتنسيق السياسي. ولا فرق بين الأوضاع التي اعترتها الخلافات قبل إبرام معاهدة الاتحاد وبينها الآن بعد مرور حوالى ربع قرن. الظاهر أن العواصم المغاربية التي أرجأت اجتماعاً كان مقرراً لرؤساء ديبلوماسيتها في مناسبة تخليد الذكرى، بات صعباً عليها أكثر أن تقرر في مصير القمة المؤجلة منذ حوالى عقدين، وإنها لمفارقة أن يستمر الحديث عن هذا الخيار في ظل أوضاع لم تسعف الشركاء المغاربيين في مجرد الاتفاق على موعد القمة، بخاصة أن الميثاق برهن اتخاذ القرارات بصلاحيات مؤسسة الرئاسة وليس اللجان الوزارية أو القطاعية أو الأمانة العامة. إن لم يكن من دواعي التئام القمة سوى معاودة النظر في الهياكل وطرق اتخاذ وتفعيل القرارات، فأي أسباب أخرى تدفع إلى إرجائها إلى المجهول. وإن لم تكن التحديات الأمنية والسياسية التي تطوق المنطقة عند خصرها الجنوبي على مشارف بلدان الساحل والصحراء، كافية لنفض الغبار عن الأجندة المغاربية، فأي دور سيكون لاتحاد مغاربي غائب يئن تحت وطأة غيبوبة مفروضة؟ مع انتفاء أسباب التشرذم وفرض منطق الوحدة والتكتل في العواصم التي ترتبط بها منطقة الشمال الإفريقي، بخاصة أوروبا، يصبح الوضع العالق للاتحاد المغاربي غير مقبول، إن لم يكن لدى أطرافه المحوريين، فأقله بالنسبة لشركائهم الذين يبحثون عن المفاوض الوحيد. وعلى رغم أن فكرة البناء المغاربي سبقت الهواجس الأولى للاندفاع الأوروبي نحو التكتل، فإن الريادة التاريخية وحدها لم تساعد في بلورة معالم هذا الخيار، تماماً كما أن تطابق المكونات المغاربية في الدين واللغة والانتساب الجغرافي والعمق التاريخي، لم يحل دون استمرار الفرقة. قبل أقل من عامين اقترح مجلس التعاون الخليجي انضمام المغرب والأردن إلى عضوية المجلس الذي استطاع الصمود في وجه كل الأعاصير. بيد أن الرد المغربي الذي تبلور لاحقاً في خطة شراكة اقتصادية متقدمة، ركز على استحضار الخيار المغاربي. ومع أنه لا يوجد في بنود المعاهدة التأسيسية للاتحاد ما يحول دون انفتاح دولة على فضاءات وعوالم عربية وإفريقية، فالاعتقاد السائد أنه لا زال في الإمكان انبعاث هذا الخيار من الرماد. وكما المغرب فإن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي بدأ تجربته في الحكم بالانفتاح على العواصم المغاربية التي طاف عليها، وهو يحمل مشروع الحريات الخمس التي تكفل للبناء المغاربي أن يتجذر في السياسة والهوية والإقلاع الاقتصادي. غير أن مبادرته لعقد قمة مغاربية تستضيفها تونس الثورة آلت إلى الإخفاق، وزاد في تعقيد الأوضاع أن العواصم المعنية عاودت نهج سياسة الانكفاء. فلا العلاقة بين المغرب والجزائر عرفت انفراجاً مشجعاً، ولا التعاقدات المبدئية لناحية تفعيل المسار المغاربي شهدت تطوراً. وربما أن المواعيد الوحيدة التي لم يعد في إمكان دول الشمال الإفريقي إغفالها، هي التي ترتبط بأجندة منظومة 5+5، التي تجمع بين دول ضفتي البحر المتوسط شمالاً وجنوباً. الأوروبيون محقون في عروضهم والتزاماتهم. إذ ينطلقون من الأهمية الإستراتيجية لدول الجنوب في تنويع الأسواق وتوريد المواد الأولية والإبقاء على مناطق النفوذ. وفي مقابل ذلك، يكتفي شركاؤهم في الضفة الجنوبية بتلويك عبارات الأسى والأسف إزاء ما آل إليه وضع الاتحاد المغاربي، مع أنهم مسؤولون بالدرجة الأولى عن إخراجه من النفق المسدود. وكل ذكرى والاتحاد الوهمي بألف خير، فقد ترك في الزاوية لا ينفض عنه الغبار إلا من خلال برقيات التهنئة في المواسم.