خطبة الجمعة رسالة ذات قداسة، وقداستها ليست من قداسة فكر الخطيب، ولا من مكانته، أو فضله وصلاحه، إنما قداستها من قداسة ما يتلى فيها من آيات الذكر الحكيم، وأحاديث السنة المحفوظة، وما تحويه الخطبة من قيمٍ فاضلة، ومعانٍ شرعية مستنبطة من محكم النصوص المقدسة. والشرع الحكيم لم يستنصت المأمومين للخطيب من أجل أنه أفضل مكانةً، أو أغزر علماً، أو أعمق فهماً، فقد يكون فيهم من هو أجل منه وأعلم؛ ولكنّه استنصتهم لخطبته، ونهاهم عن كل ما يشغلهم عن ذلك من أجل ما يلقيه على أسماعهم من نص مقدس، أو موعظة يدل عليها ذلك النص، فلا مجال إذاً أن تكون الخُطبة محض رأي خاص غير ظاهر الدلالة من نصوص الشريعة وقواعدها وأصولها، ولا مزية له على غيره، فكيف يسوغ أن يُقدّم على غيره ويفرض على أسماع الناس، فالناس غير ملزمين بالإنصات لرأيه الخاص، وترجيحاته المنازَع فيها، ولم يؤمروا بترك أعمالهم وبيوعاتهم من أجل أن يُسمعهم الخطيبُ رأياً فطيراً من بادئ رأيه، يراه اليوم ثم يرجع عنه بعد تروٍ ونظر. ولذا شُرع للمأمومين أن يستدركوا على الخطيب إن هو أخطأ، وشرع - أيضاً - أن ينكروا عليه إنْ هو تعدّى في خطبته وحادَ عن موضوعها، ولا يجوز أن يسكتوا عن خطئه وتجاوزه، فالإنصات إنما هو للحق الذي أُمر أن يُبلِّغه للناس. من المؤكد أنه ليس من شروط الخطبة أن تكون محصورةً في آياتٍ تتلى، وأحاديث تقرأ، بل ولم تكن غايتها هي هذه؛ غير أنه لا يجوز بحال أن يخرج الخطيب بالخُطبة عن روح الموعظة الصحيحة، وحِكَم الشريعة وأحكامها، وفقه معانيها وآدابها وقِيمها، إلى آراء شخصية مجردة، أو موعظة بغير الطريقة المحمدية. وليس في ذلك تحجير لواسع، ولا حجر على إبداع، ففي روح الشريعة ونصوصها وقيمها وأحكامها ما يستغرق خُطبَ سنوات لا سنة، وفي وسع الخطيب أن يبدع من غير أن ينحرف بالخطبة عن سوائها، وذلك في أسلوب الإلقاء وحسن العرض، واستظهار المعاني الشرعية الغائبة، وربط الواقع بالشرع، ولفْت الأبصار والبصائر لمشاهد الاتعاظ والاعتبار، وهذا يحتاج إلى تحضير وإعداد يستحقه منبر الجمعة، وهو يسير على من صلحت نيته، واتقى الله فيه. وإذا كان المؤمن مأموراً أن يكون في توسط بين الخوف والرجاء، فلا يغالبه الخوف فييأس من رحمة الله، ولا يغالبه الرجاء فيأمن مكر الله ويستهين بالمعصية، فإن الخطيب مأمورٌ - كذلك - أن يتوسط في خطبه بين الترغيب والترهيب، يرغب حيناً، ويرهّب حيناً آخر؛ كما هو منهج القرآن، وهدي النبي - عليه الصلاة والسلام - ، وأن يُعنى بالأمر بالمعروف قدر عنايته بالنهي عن المنكر، أو أكبر، وألاّ تشغله عنايته باستصلاح سلوك الجوارح عن التأكيد على ضرورة استصلاح أعمال القلوب، وعطف قلوب الناس إلى تعظيمها. إن إغراق الخطيب في مسائل محصورة تتقاصر دون عموم حاجات الناس ومشكلاتهم وقضاياهم يفضي - ولا شك - إلى الإخلال بما راعته الشريعة وعنيت به من الضرورات الخمس، التي تتجاوز حفظ الدين إلى حفظ النفس والعقل والعرض والمال، وكل ضرورة من هذه الضرورات تندرج تحتها قضايا مهمة لا ينبغي للخطيب إهمالها، أو نسيانها في غمرة عنايته بغيرها... وللحديث تتمة. * كاتب سعودي. [email protected] samialmajed@