ثمة جملة قضايا باتت تثقل على الثورة السورية، وتصعّب طريقها، وتشوّش صورتها، أمام شعبها، وإزاء العالم، وضمنها افتقادها لهيكلية قيادية ومؤسّسية ناجزة، بعد مرور عامين تقريباً على اندلاعها، وتضارب، أو عدم وضوح، خطاباتها السياسية وفعالياتها العسكرية، وافتقادها إلى الدعم المالي والعسكري والإغاثي، بما يتناسب والتضحيات التي يقدمها السوريون، وعمق التدخّلات السلبية العربية والإقليمية والدولية في شؤونها. ولا شكّ في أن قضية «جبهة النصرة» وأخواتها تأتي ضمن جملة هذه القضايا، مع التأكيد بأن التعامل الخارجي مع هذه القضية كان ينطوي على توظيفات ليست بريئة تماماً، لا سيما لجهة المبالغات التي وصلت إلى حدّ اختزال «الجيش الحرّ»، والفعاليات العسكرية للثورة، ب «جبهة النصرة» وأخواتها (من جماعات «جهادية إسلامية»)، مع أن أغلب التقارير الغربية قدرت عددها بما لا يزيد عن بضعة آلاف مقاتل من قرابة مئتي ألف مقاتل من المنتسبين إلى الجماعات العسكرية المنضوية في إطار ما يسمى «الجيش الحرّ». علماً أن جماعات هذا الجيش هي التي كسرت الجبروت العسكري للنظام، وتمكنت من فرض سيطرتها في عديد المناطق من درعا الى دمشق مروراً بحمص والرستن وصولاً الى حلب وإدلب ودير الزور، وهذا كله كان حصل قبل بروز «النصرة وأخواتها». على ذلك ثمة أهمية كبيرة للنقاش في هذا الشأن، كما في غيره من شؤون الثورة السورية المجيدة والمشروعة. فهذه هي الثورة الأكثر صعوبة وتعقيداً والأبهظ ثمناً بين مجمل ثورات «الربيع العربي». لكن قبل ذلك يجدر بنا التنويه بأن نقاش قضية هذه الجبهة ينبع من ضرورات تخصّ الثورة السورية ذاتها، طابعها الوطني، ووحدة قرارها، وسلامة مسارها، قبل أن تخصّ أي أحد في الخارج، على رغم أهمية هذا «الخارج»، في ظروف السوريين الخاصة. أيضاً، فإن هذا النقاش ليست له علاقة بمواقف مسبقة، أو جاهزة، لا في ما يخصّ الموقف من عسكرة الثورة السورية، ولا في ما يخصّ الطابع الديني، أو المذهبي، لهذه الجبهة، بقدر ما له علاقة بطبيعة هذه الجبهة، وأجنداتها السياسية، التي هي على الأرجح تفيض، أو تختلف، عن المقاصد التي اندلعت من أجلها ثورة السوريين. ليس القصد من هذا النقاش توليد نوع من أجوبة من مثل مع «جبهة النصرة» أو ضدها، القبول بها أو رفضها، مسايرتها أو محاربتها، وإنما السؤال عن مشروعية هذه الجبهة، وتعيين مكانتها في إطار الواقع السوري، وتأثيرها على الثورة السورية. على ذلك ثمة سؤالان أساسيان، ومبدئيان، وتتأسس عليهما مشروعية هذه الجبهة، الأول، يتعلق بما إذا كانت هذه الجبهة منبثقة من الواقع والمجتمع السوريين، وليست مجرد كيان عابر، يستثمر في سورية، باعتبارها ساحة من ساحات عمله. ولا شكّ في هذا الإطار، أن لا أحد يملك الحق في نزع الشرعية عن أي فصيل أو أي حزب، ولا لأي سبب، طالما أن هذا الحزب أو الفصيل يمثل شريحة معيّنة من الشعب السوري، وهو أمر ينبغي التأكد منه. أما الثاني فيتعلق بالسؤال عن هدف هذه الجبهة، أي مدى تماثلها مع أهداف الثورة السورية، كما تطرحها كياناتها السياسية، ولا سيما «الائتلاف الوطني»، والتي تتمحور حول هدف إسقاط النظام. وإذا كانت الإجابة عن السؤال الأول تقع على عاتق مكوّنات الثورة السورية (السياسية والعسكرية والشعبية)، فإن السؤال الثاني ينبغي أن يطرح من قبل اطاراتها على «جبهة النصرة»، ومثيلاتها، كي تجيب عنه. وبديهي أن ذلك لا ينبغي أن يطرح على سبيل أخذ العلم فقط، وإنما لضمان التزام هذه الجبهة، أو غيرها، بالهدف العام للثورة السورية، أقله بالقدر الذي يجري فيه الضغط على رئيس «الإئتلاف الوطني» لمجرد تصريحات أدلى بها، اعتبرت من قبل البعض خروجاً على الاجماع. وبالتحديد وبالنسبة ل «جبهة النصرة» وأخواتها، فإنها معنيّة، لتثبيت شرعيتها، وإضفاء الصدقية على مساهمتها في الثورة السورية، أن تؤكّد، أو توضّح، مسائل عدة، أولها، نبذها للعنف في المعاملات بين قوى الثورة السورية، وأيضاً بينها وبين المجتمع، وضمن ذلك قوى الثورة المدنية، لا سيما أننا نتحدث في ظل من واقع ثورة مسلحة، وفي إطار من عسكرة تنجم عنها تداعيات ومعاناة وتظلّمات وانحرافات كثيرة. وثانيها، تأكيدها أن الصراع الجاري في سورية ليس صراعاً دينياً، ولا طائفياً، وإنما لإسقاط نظام الاستبداد والإفساد. فمن شأن تغوّل البعد الطائفي أو الديني تقويض معنى سورية كبلد متنوع وتعددي، وشقّ النسيج المجتمعي في سورية، وإثارة المخاوف بين مكونات الشعب السوري، ما يفيد النظام ويضرّ بالثورة. وثالثها، التزامها باعتماد الوسائل الديموقراطية والانتخابات، في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفي شأن تداول السلطة. وبديهي أن هذا يشمل تأكيد التزام الجبهة بنبذ استخدام السلاح لفرض أجندتها السياسية، سواء في مسار الثورة، أو بعد التخلص من النظام، مع حقّها في الترويج لأفكارها ومشروعها السياسي بالوسائل الديموقراطية المشروعة والتي يكفلها الدستور. ورابعها، التأكيد على الطابع الوطني لثورة السوريين، ما يعني عدم اعتبار سورية ساحة أو قاعدة لساحة أخرى، في مرحلة ما بعد إسقاط النظام. وخامسها، انتهاج العمل المسلح بطريقة مشروعة، وضمن ذلك نبذ العمليات التفجيرية التي تستهدف المدنيين والأبرياء، لأن الغاية لا تبرر الوسيلة، ولأن مقتل الثورات يكمن في تشبهّها بالنظام الذي قامت بالثورة عليه، ولأن الثورات هي حالة رقي سياسي وأخلاقي أيضاً. على أية حال فإن قيادة الثورة السورية (في إطاراتها السياسية والعسكرية والشعبية)، وضمنها حركة «الاخوان المسلمين» بالذات، تتحمّل المسؤولية عن تشوّش صورة الثورة السورية، عند السوريين، وفي العالم، وتضارب مقاصدها، لا سيما مع إعلان هذه الشخصية او تلك، وهذه الكتيبة او غيرها، بين فترة وأخرى، إدعاء احتكار التقرير في مستقبل سورية، على رغم وجود وثائق ثمة اجماع عليها، وضمنها وثيقة «العهد والميثاق»، التي أعلنتها حركة «الإخوان المسلمين» (25/3/2012)، وطرحت فيها تصورها لمستقبل سورية، كدولة مدنية حديثة وديموقراطية، دولة مساواة وحريات، تقوم على دستور مدني. فحتى هذه الوثيقة يجري نسيانها او تجاهلها. عموماً، ليس المطلوب ايجاد مناخ من الاحترابات أو المنازعات الداخلية، في الثورة السورية، وإنما المطلوب وضع الجميع عند مسؤوليتهم، ومواصلة الضغط من أجل تنظيم الثورة لصفوفها، وتوضيح مقاصدها، لا سيما بعد عامين على الثورة، ومع وجود حوالى ستين ألف شهيد وأضعافهم من الجرحى والمعوقين والمعتقلين، ومع حوالى 4 ملايين من السوريين باتوا في حالة صعبة، بل مأسوية، من دون بيت أو عمل أو مورد. * كاتب فلسطيني