يجول المفكر اللبناني جورج قرم في كتابه الجديد «حكم العالم الجديد، الأيديولوجيات، البنى والسلطات المعاكسة»(الشركة العالمية للكتاب) في القضايا الساخنة في العالم، وأسباب تفاقمها وعوامل انتشارها، وصولاً إلى تبيان النتائج السلبية والوخيمة التي تطاول المجتمعات كلها في العالم، فقيرها وغنيها. يعالج قرم في الكتاب قضايا وموضوعات إشكالية ساعياً من خلالها إلى رسم صورة بانورامية لأزمات العالم الحديث أوما بعد الحديث، ومن هذه القضايا والموضوعات التي تشي بها أصلاًَ عناوين الفصول: تأمل العالم بطريقة نقدية، أصول العقيدة النيوليبرالية التبسيطية وكيف فرضت نفسها، المناقشات المزيفة التي أثارتها أصول المبادئ العقدية، أصول العقيدة النيوليبرالية التي تحوّل الأنظار عن مناقشات حقيقية، مسائل المجادلة الأساسية المنسية، الاقتصاد: سياسي أم علمي؟ التحول المخيف لنظم تعليم الاقتصاد، اختصار الاقتصاد بالأبعاد المالية وعواقبه، مراحل تكوين السلطة المعولمة، مكونات السلطة المعولمة العديدة، الإنشداه نحو العقيدة النيوليبرالية، البحث عن قوى التغيير، متغيرات استشراف مستقبلي... والكتاب وضع أصلاً بالفرنسية وترجمه غازي برو. يبرز في الكتاب خيط يشد فصوله وهو يتصل بالعولمة، تحديدها وكيفية التعاطي معها من خلال المفكرين والسلطات وعلاقتها بالأزمات المالية التي تعصف بالعالم خصوصاً منها أزمة العام 2008، وصولاً إلى نتائجها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية على بلدان العالم. يتساءل الكاتب عن الموقع الذي تحتله العولمة سواء في عالم الاستهلاك المادي، أم في عالم المعرفة والتكنولوجيا التي تساعد المجتمعات على التقدم والازدهار. ومن أسئلة تدور حول المصدر الذي تكتسب العولمة منه قوتها، وإلى القوى التي أفرزتها خصوصاً على صعيد تكديس الثروات بين أيدي قلة في كل بلد، من الذين باتوا يتحكمون في كل مفاصل الحياة، فإلى سؤال يتصل بكيفية الحد من سلطاتهم الهائلة والمطلقة، بكل ما يعنيه ذلك من تحكيم القيم الأخلاقية وإدخالها إلى النظام الاقتصادي المعولم، سعياً إلى التخفيف من انحرافاته بالنظر إلى العجز عن تصحيح مساره. يلخص قرم جوهر أطروحته بالقول : «في الحقيقة، لا بد من الانتهاء من حال العبث الاقتصادي والاجتماعي الذي يقودنا إليه العالم المعولم كل يوم وبصورة متواصلة. كان بالإمكان تعليق الآمال على أن تؤدي الأزمة المالية والاقتصادية الماضية في هز العالم منذ العام 2008 إلى إطلاق إصلاحات واسعة، تحت ضغط مضاعفة الحركات الاحتجاجية. لكنّ شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، حتى أنه يجوز لنا التساؤل في هذا النصف الثاني من العام 2010 عما إذا كانت ثمة أزمة، وأية أزمة هي؟ ولكن على الرغم من المشكلات التي لا تحصى وتسببها عولمة أصبحت عبثية، فإن متخذي القرار وصناع الرأي لم يبرحوا يتباهون بحسناتها، كخلق «آليات سوق» جديدة بلا انقطاع، وما توفره من فرص الكسب السريع والمضاربات المالية، متناسين فرص الفساد المقترن بالإجمالية الاقتصادية المتنامية باستمرار». وإضافة إلى الفقر والتهميش والبطالة الناجمة عن العولمة، إلا أن مخاطرها تتمظهر في قدرتها على خلخلة العالم وفضاءاته الاقتصادية، وما تستتبعه من انهيار في الفضاءات الاجتماعية وتفكك بنى المجتمعات. تجسدت العولمة في نظام الليبرالية الجديدة التي تحولت إلى رأسمالية متوحشة على يد أحد مكونات العولمة، أي الشركات العابرة للقارات، ونظامها الاقتصادي الجديد الذي من أبرز بنوده نزع الحمايات التي كانت ولا تزال تضبط إلى حد ما، تبادل السلع والخدمات، وحركات الرساميل، وحركة الأفراد. «وضمن هذا التيار الذي يبدو عصياً على الاحتواء، يتم تفكيك المجتمعات وتفتيت الأسر بواسطة حركات هجرة واسعة المدى، ويجري انتزاع تدريجي لصلاحيات أجهزة الدولة الضامنة للفضاء الاقتصادي للمجتمعات أو يجري إخضاع تلك الأجهزة في غالب الأحيان، للمصالح الخاصة العائدة للمجموعات المستفيدة من العولمة وما تمارسه على قطاعات عريضة من الرأي العالمي من تأثير أيديولوجي ذي طابع ديني شبه كامل». إذا كان المنحى العام لمسار العولمة يسير في صعود متنام ومعه النظام الرأسمالي العالمي، بحيث يبدو أن لا إمكان لكبح جماحه، فإن السؤال الذي يراه قرم مشروعاً هو عن مدى توافر القوى اللازمة عالمياً للحد من مخاطر هذا الجموح، طالما أنّ من المستحيل التصدي لكل مفاعيله، وبعد أن تلاشت الآمال التي علقت على إجراء إصلاحات تتناول انحرافات العولمة خصوصاً بعد الأزمة المالية. مناهضة العولمة لم تمر العولمة منذ عقود من دون محاولة لمواجهتها. وإذا كانت المواجهة على صعد الدولة المحلية تبدو صعبة التحقق نظراً إلى القوى المضادة من الرأسماليين والبيروقراطيين، فإن محاولات جرت، ولا تزال، تتمثل بقوى استطاعت أن تنظم نفسها على المستوى العالمي. يمكن القول إن «المنتدى الاجتماعي العالمي» الذي تأسس عام 2001 هو حالياً المنبر الأبرز الذي تعبر من خلاله التيارات الفكرية المناهضة للعولمة، في مختلف الأشكال التي استطاعت خوض معركتها عبرها. ضم المنتدى عشرات الألوف من المناهضين للعولمة، الذين كانوا يتجمعون في تظاهرات لدى كل انعقاد للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعقد كل عام. اعتبر المنتدى نفسه «مساحة لقاء مفتوح لتعميق التفكير، ومناقشة الأفكار الديموقراطية، وصوغ مقترحات، والحوار الحر حول الخبرات وتضافر جهود هيئات المجتمع المدني وحركاته الهادفة عبر مبادرات فعالة إلى مناهضة أي شكل من أشكال الإمبريالية، وهي مبادرات للعمل على بناء مجتمع عالمي محوره الإنسان». وعلى رغم التحركات التي قامت بها منظمات مناهضة العولمة ظلت هامشية إن لم نقل من دون فاعلية، وهو ما دفع بالكاتب إلى التساؤل: هل تملك مناهضة العولمة فرصاً تفضي إلى تغييرات رئيسة تسمح ببزوغ نظام دولي جرى إصلاحه، من دون الاعتماد على دول ذات شأن في توفير الدعم للساعين إلى بديل للعولمة؟ يبدو السؤال أساسياً في المسار المقبل، لكنه يبدو بعيد التفاؤل عن التحقق. فإذا كانت العقود السابقة تعطي موقعاً مؤثراً إلى حد ما لما كان يعرف بدول العالم الثالث، إلا أن الزمن الراهن يشهد لتلاشي هذا التأثير بصورة شبه كاملة. وباتت هذه الدول في قبضة صندوق النقد الدولي من جهة، وتحت رحمة الشركات العابرة للقارات، يضاف إليها أن معظم هذه الدول تتكيف اليوم مع مقتضيات العولمة وتخضع لمؤسساتها حفاظاً على حد أدنى من التماسك، ومنعاً للانهيار الشامل الذي ينتظرها إذا ما حاولت أن تأخذ لنفسها دوراً مواجهاً لهذه العولمة. على رغم الانتقادات التي كالها الكاتب للعولمة، إلا أنها تبقى تعبيراً عن مرحلة من التطور والتقدم العالميين، وكأي تقدم في العلم والتكنولوجيا، فإنه يحمل الوجهين الإيجابي والسلبي. قد تكون مشكلتنا في العالم العربي تكمن في نقص الدخول في العولمة والإفادة من مكتسباتها، في وقت نحتاج إلى الخروج من الإقامة المديدة خارج العصر.