في ذلك الوقت المبكر لم يكن روبرت لويس ستيفنسون قد أصبح ذلك الكاتب المرموق الذي يتدافع القراء إلى الإقبال على رواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة. كان لا يزال بعد شاباً واعداً في الخامسة والعشرين من عمره ترك منذ فترة دراسة الهندسة ليدرس الحقوق، ثم ترك بعد ذلك الحقوق ليتفرغ إلى المغامرات والكتابة. في ذلك الوقت، إذاً، نشر ستيفنسون على التوالي، وبفارق زمني لا يتجاوز الأعوام الثلاثة، كتابين سيكونان فاتحتي تلك السلسلة من الكتب التي ظل يكتبها وينشرها حتى أعوامه الأخيرة، ونُشر بعضها، حتى، بعد رحيله في عام 1994 عن عمر لا يتجاوز الرابعة والأربعين. وهنا قبل الحديث عن هذين الكتابين الأولين، لا بد من أن نشير إلى أن ستيفنسون أصدر كتبه الباقية كلها، بما فيها طبعاً شوامخه التي جعلته واحداً من كبار كتاب اللغة الإنكليزية في زمنه، خلال فترة من الزمن لا تتجاوز العقد ونصف العقد من السنين، وهي حقبة لم يتوقف خلالها عن القراءة والتأمل والسفر والحب والسخرية من نفسه ومن الآخرين... لم يتوقف خلالها عن خوض «مهنة العيش» كما كان يمكن لتشيزاري بافيزي أن يقول. وكان واضحاً من خلال وتيرة كتابة ستيفنسون لأعماله أن الرجل يحاول أن يسابق الزمن. كان يركض طوال الوقت ويصبّ على الورق نتاج ذلك الركض الذي كان ينقله دائماً من مسقط رأسه في اسكوتلندا إلى شتى أنحاء العالم ثم يعيده إليها... وفي اعتقادنا أننا إذا استثنينا نصف دزينة من كتّاب فرنسيين وإنكليز من أبناء جيل ستيفنسون، لن نجد أحداً قام برحلات تضاهي ما قام هذا الأخير به. ولئن كان القسم الأكبر من روايات صاحب «جزيرة الكنز» و «دكتور جيكل ومستر هايد» قد كان حصيلة لتلك الرحلات، فإن ما يمكن قوله هنا هو أن الرحلات كانت الموضوع الأساس لكتابيه الأولين «رحلة في الأقنية والأنهار» (1878) و «رحلات على ظهر الحمار في السافان» (1879). والكتابان يروي فيهما ستيفنسون، أساساً، تفاصيل جولات قام بها في المناطق الفرنسية. مهما يكن من أمر لا بد أن نشير هنا إلى واقع أن ستيفنسون كان، ومنذ ما قبل تينك الرحلتين الفرنسيتين، ومنذ سن المراهقة قد سافر إلى بحار الجنوب، لكنه لن يكتب عن ذلك السفر لاحقاً، إذ لم يكن بعد واثقاً أن مشاهداته جديرة بأن تُقرأ على نطاق واسع، بحسب ما سوف يقول هو نفسه عن ذلك الأمر لاحقاً حين سئل عنه. لكنه إذ قام بعد عودته من بحار الجنوب، بسفرة إلى فرنسا مع صديق له يدعى والتر، ولفتت غرابة السفرة الأنظار إذ أن الاثنين تجولا خلالها على قاربين فرديين استقل كل منهما واحداً، رأى ستيفنسون أن الأمر صار الآن جديراً بأن يروى. فكان كتابه الأول الذي وصف فيه كيف انطلقا معاً من مدينة آنفير البلجيكية ليصلا إلى مدينة غريتز الفرنسية غير بعيد عن فونتانبيلو. وكذلك وصف كيف أنهما حين وصلا إلى هدفهما الأخير لم يلفتا أول الأمر انتباه أحد، اللهم إلا الذين نظروا بدهشة واستغراب إلى الملابس الغريبة التي كان هو يرتديها، مقارنة مع جديّة ملابس صديقه. أما بورجوازيو المرفأ النهري فإنهم عاملاهما بحذر شديد، إذ أثارت ريبتهم مقدرة هذين الإنكليزيين على التكلم بالفرنسية بطلاقة. ولقد روى ستيفنسون في كتابه هذا كيف أنه طوال المجرى المائي كان، وهو في قاربه الصغير يواجه «الموت في كل لحظة وعند كل منعطف» ولا سيما حين عبر نهر الواز. ولسوف يقول لاحقاً أن تلك الرحلة الغريبة والصعبة كانت أشبه بسيرة حياته كلها أو بموجز لها، خصوصاً أن عواطفه اختلطت خلالها بخياله الواسع، وكان الموت المتربص به وبرفيق رحلته، رفيقاً ثالثاً له ولوالتر خلالها. ويروي ستيفنسون في إحدى صفحات الكتاب أن بنات قرية من القرى عبراها، التففن حوله ورفيقه عندما بدآ المغادرة ليقلن لهما: «عودوا لرؤيتنا ذات يوم» فما كان منه إلا أن قال لهن: «نعود؟ إن هذا النمط من الرحلات هو مثل الحياة نفسها، سفر لا عودة فيه... هو سفر يسير قدماً دائماً إلى الأمام». بعد تلك الرحلة الفرنسية الأولى التي انتهت، بعد كل شيء، على خير، استقر ستيفنسون بعض الوقت في باريس حيث عاش في الحي اللاتيني حياة بوهيمية كان يحلم بها منذ زمن، وهناك كان في أوقات فراغه يتجول مع امرأته الجديدة فاني في أروقة متحف اللوفر. وإذ كان على فاني أن تعود إلى إنكلترا لتطلق زوجها الأول حتى تتمكن من الزواج من ستيفنسون، وجد هذا الأخير نفسه وحيداً ومن غير أي عمل يقوم به فتوجه إلى قرية موناسيتيه في الريف الفرنسي، وهناك اشترى أتانا (زوجة الحمار) وضع عليها لفافات أوراقه وحقيبة ثيابه، وانطلق في تلك الرحلة الجديدة عبر منطقة السافان الفرنسية. وكانت تلك هي الرحلة التي بدأها يوم 22 أيلول (سبتمبر) 1878 في وقت كان القراء في لندن قد بدأوا يقرأون فيه فصول كتاب رحلته الأولى... وكانت الرحلة الجديدة هي التي ستشكل مادة كتابه التالي «رحلات على ظهر الحمار في السافان». ويعرّفنا ستيفنسون منذ أوّل صفحات هذا الكتاب أن اسم الأتان كان «مودستين». وكانت بطيئة الحركة إلى حد مدهش كما سيروي في فصول عدة تالية من الكتاب. فما العمل؟ نُصح بأن يهمزها باستمرار، فنجحت الخطة وراحت مودستين تخب خبباً بحيث «صرت أنا، كما يقول ستيفنسون، من فوري، أسعد حيوان في فرنسا». والحال أن ستيفنسون سيروي في كتابه، وبكل سعادة، كيف أن تلك الرحلة التي قام بها سيراً على الأقدام في صحبة مودستين، تحولت لتصبح بالنسبة إليه رحلة تعليمية حقيقية «فعند كل منعطف طريق، كان مشهد خلاب يتراءى أمام عينيّ... ولكن في الوقت نفسه كان سرعان ما يلوح أمامي صفحة من تاريخ فرنسا ليس عليّ إلا أن أفك رموزها وأبدأ بربطها بالمشاهد والتواريخ والصفحات الأخرى». وهكذا إذ يصل إلى منطقة جيفودان الضارية، يتأمل المشهد لكنه في الوقت نفسه يستعيد صورة الذئب المتوحش الذي تقول الحكاية إنه عاش في المنطقة قبل زمن وأخذ يُرهب السكان ويأكل الأطفال... وطوال الطريق هناك جابه ستيفنسون، بجهد حقيقي، كل تلك الهواجس التي لم تكفّ عن ملء تاريخ فرنسا كله: الطرقات الصعبة، الظلام، الفنادق الصغيرة التي يصعب على أي كان أن ينام أو يعيش فيها، مخاوف الفلاحين القديمة. ولكنه في مقابل هذا كان، وبحسب تعبيره الخاص، لا يكفّ عن «مجابهة رموز عظمة التاريخ الفرنسي: الأديرة الضخمة العتيقة، سماء الحجيج المكوكبة، نضال الثوار على مدى التاريخ، أخوة الرغيف المتقاسم كما في الأناشيد الإنسانية، ثقافة الرواة الشفهيين...». كل هذا شاهده ستيفنسون وأحسّه خلال رحلته تلك، ثم عبّر عنه في كتابه ليقول إن تلك الأيام التي قضاها وحيداً في صحبة جغرافية فرنسا وتاريخها، كانت مدرسته الحقيقية التي علمته أن «لا شيء مما هو إنساني يمكن أن يكون غريباً». ومن هنا كان يحلو لستيفنسون لاحقاً أن يطلق على رحلته تلك لقب «رحلة الإنسان بحثا عن إنسانيته...». لقد عاش روبرت لويس ستيفنسون (1850-1894) أقل من عقدين بعد قيامه بتينك الرحلتين (اللتين قال إنه جابه فيهما إنسانيته وصار خلالهما أكثر استعداداً لمجابهة موته براحة وطمأنينة)، وهو قام خلال السنوات المتبقية من عمره برحلات عدة كما أشرنا، لكنه ظل يعتبر رحلتيه الفرنسيتين من «أجمل ما حصل لي خلال حياتي». وستيفنسون نشر، على أية حال، كتب رحلات عدة أخرى (عن ادنبرغ وبحار الجنوب وسلفرادو) كما نشر روايات نالت شعبية، ندر أن ضاهتها شعبية أي كاتب آخر من طينته. ومن مؤلفاته إلى ما ذكرنا، «ليالي ألف ليلة الجديدة» و «مغامرات دافيد بلفور» و «سيد بالنتراي» و «السهم الأسود» وغيرها. [email protected]