الحروف واحدة، العبارات متطابقة، الجمل متشابهة، والوجوه هي نفسها، لكن اللغة مختلفة وغير قابلة للترجمة أو الدبلجة. الحدث نفسه يراه كلا الطرفين بطريقة مغايرة تماماً، الغضب نفسه يفسره كلاهما بمنهج متناقض تماماً، الجريمة نفسها يمنطقها كلاهما بنظريات متنافرة تماماً. ما يبدو لأحدهما رصيداً هو مديوينة للآخر. وما يتخيله أحدهما إنجازاً هو إخفاق للآخر. وما يبجله أحدهما باعتباره غاية المنى والأمل هو للآخر غاية النفاق والخراب. «جبهة الإنقاذ الوطني» المعارضة التي يطلق عليها الإسلاميون «جبهة الخراب» تقف هذه الساعات على محك المعارضة. جماعة «الإخوان المسلمين» التي يطلق عليها معارضوها «الإخوان المتأسلمين» تقف على حافة الدولة. الدولة «فاشلة» لدى الغالبية، «عميقة» لدى الإسلاميين. الرئيس محمد مرسي «خير من أنجبت مصر» في عيون الإسلاميين، و «واحد من آلاف أنجبتهم الجماعة» في عيون معارضيه. مجموعات «ألتراس» في عرف «الإخوان» توصم بأنها «بلطجية» لكنها لدى المعارضة «مجموعات مناضلة» ضغطت بسلاح التهديد بالفوضى للحصول على حق الشهيد. حق الشهيد تحقق بحكم المحكمة أمس «إخوانياً» وتم تصديره بمواجهة مع أهل بورسعيد «ليبرالياً». مصر هي التي تزرع الأشجار وتنظف القرى وتجدد المدارس «إخوانياً» وهي المعتصمة في الميدان «ليبرالياً». لغتان متناقضتان تقفان على طرفي نقيض تسمعهما وتراهما وتتسللان إليك في كل ركن من أركان المحروسة. يغرد الرئيس عقب وقوع شهداء السويس، فيهلل «الإخوان» مكبرين مسبحين بحمد الله الذي أنعم على مصر بهذا الرئيس الورع الملم بتكنولوجيا المعلومات، ويهلل كذلك آخرون من غير «الإخوان» بأن «الرئيس الذي يعزي شعبه في وفاة مواطنين بتويتر يجب أن نعمل له بلوك (حظر)». يكتب رئيس حزب «الحرية والعدالة»، الذراع السياسية ل «الإخوان»، سعد الكتاتني تدوينة على «فايسبوك» ينعى فيها الشهداء ويحمل دعاة العنف والفوضى المسؤولية، فتطبل مواقع «الإخوان» وتزمر منصات السلفيين بهذا الإحساس الراقي العالي، وتحفل ساحات الليبراليين بعبارات الشجب والتنديد لأن ما نعته عنفاً ما هو إلا نضال وما صنفه فوضى ما هي إلا غضبة. غضب «الإخوان» من أحداث إحياء ذكرى الثورة حمل «جبهة الإنقاذ» مغبة عدم شجب وإدانة العنف، وإدانة العنف المستمرة التي ترددها «جبهة الإنقاذ» تغضب «الإخوان»، لأنها تشمل كل العنف وليس بعضه. بعض الارتفاع هو نفسه بعض السقوط، وكل السقوط هو نفسه كل التألق والإنجاز. فبينما قاضي المحكمة يتلو أسماء من أحيلت أوراقهم على فضيلة المفتي، تنهال الرسائل النصية القصيرة على قناة «الجزيرة مباشر مصر» المحبة حباً شديداً للجماعة ولا يخرج محتواها عن إطار «ارتفع رصيد الإخوان وانخفضت أرصدة جبهة الخراب» و «يا رب تكوني ارتحتي يا جبهة الإفلاس» و «بالروح بالدم نفديك يا مرسي يا نصير عدالة القضاء»، وهي اللحظات نفسها التي أججت نيران القلق في قلوب غير الإسلاميين ممن رأوا في ما يحدث مخدراً موضعياً للخروج من أزمة «مشروع ثورة يناير 2013». تأثير المخدر المشابه للبرد في لحظيته والمقابل للسلام في أثره الوقتي لخصه نائب رئيس حزب «الحرية والعدالة» عصام العريان في تغريدته أمس «برداً وسلاماً نزلت أحكام القضاء»، على رغم أن الأحكام نفسها نزلت حرارة وغضباً على آخرين، ليس لنص الأحكام ولكن لاقتصار العقاب حتى اللحظة على أداة التنفيذ وليس العقل المدبر. العقل المدبر هنا وهناك هو من يخط الكلمات ويسيس العبارات ويؤجج الجمل ويمنطق الأحداث ويفلسف الأمور، لكنهما عقلان مختلفان متضاربان يجذبان ويمزقان جسد الوطن يختلفان على مبادئ الخير والشر، ويتعاركان على البديهي والطبيعي، ويتنازعان على الحقيقة الواحدة. واقع الحال يؤكد أن الحقيقة الواحدة الواضحة حالياً هي حقيقة الحكم، فمن «خليهم يتسلوا» المنطوقة في 2010، إلى «خليهم يتشلوا» المحسوسة في 2013. ومن «قلة مندسة» و «وجبة كنتاكي» في كانون الثاني (يناير) 2011 إلى «شرذمة منحطة» و «جبن نستو يا معفنين» في كانون الأول (ديسمبر) 2012، ومن «يوروهات توزع على المعتصمين وكرات اللهب تتوجه نحو التحرير» في شباط (فبراير) 2011 إلى «فلوس متدبسة وجراكن بنزين وزجاجات خمرة» في كانون الأول 2012. ومن تصدير المشاكل بعيداً عن السلطة ليحل المواطنون أزماتهم بتخليص حقوقهم من بعضهم بعضاً في ظل نظام سابق، إلى تصدير الأزمات خارج نطاق القصر وبعيداً عن سلطة القانون نظراً إلى اختلاف الأولويات. ومن برد الحكم وسلامه إلى حرارة الوطن وآلامه تقبع أوجه التشابه في زمن اختلاف اللغة.