التقية من المفردات التي يرتدي الموقف منها في الدائرة الإسلامية طابعاً مذهبياً، يعوق الفرد المسلم من فهمها والتعرف اليها في معزل عن الضغط الإيديولوجي الذي يُملى عليه إما بالتأييد أو بالإدانة. كما أن الجدال المذهبي الحاد، وتوظيف الكم الهائل من النصوص الدينية حول هذا المفهوم، حجبا تاريخية المفهوم وملابسات تولده، والذي لم تكن ممارساته منطلقة من دوافع دينية، بقدر ما عكس قواعد اللعبة بين القوى في الصراع على السلطة، وفي التنافس المذهبي، وأظهر درجة اللاتسامح الحاصلة في التاريخ الإسلامي، تجاه الاختلاف والتنوع، لا على مستوى السياسي فحسب بل على مستوى المذهب والعقيدة. من الطبيعي اعتبار التقية من سمات القوى المعارضة للسلطة، والجماعات التي تتعرض لملاحقة من السلطة، أو التضامنات الاجتماعية والمذهبية ذات الطابع الأقلوي، والتي تتعرض لضغوط أو اضطهاد من الأكثرية التي لا تتسامح في الاختلاف أو التمايز عنها. أي أن للتقية دوافعها الذاتية والموضوعية، التي تشرّعها كل المجتمعات وتبررها كل القيم، بل وتتفهمها الأديان في دائرة دفع الضرر وحالات الاضطرار. ولهذا اعتُبِر سلوك التقية سمة خاصة بالشيعة في مرحلة خاصة في التاريخ الإسلامي، بسبب أن رموزها من سلالة علي ابن أبي طالب قد حُيِّدوا عن السلطة، وأصبحوا هم وأتباعهم موضوع ملاحقة قاسية من جانبها. إلا أن هذا السلوك، تحول مع الزمن، بفعل السجال المذهبي الحاد، إلى سمة لازمة وثابتة للمذهب الشيعي. أي انتقلت التقية من مسوغها التاريخي، إلى مسوغها الديني، الذي أسبغ عليها صفة الديمومة والثبات، في حين كان مسوغها منحصراً بالضرورة كما جاء في الرواية عن الإمام محمد الباقر: «التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به»، و «كلما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه تقية»، و «ليس شيء مما حرم اللَّه إلا وقد أحله لمن اضطر إليه». فسقف الجواز أو حدّه الأقصى هو عدم التسبب بالضرر للآخرين أو الإساءة الى الصالح العام. لذلك ورد عن الإمام الصادق: «إنما جعلت التقية ليحقن بها الدَّم، فإذا بلغ الدَّم فليس تقية». المشكلة تكون، حين تتحول التقية إلى سلوك جماعي، أو خاصية تتسم بها جماعة بعينها داخل المجتمع، وتنتقل من دائرة الفرد إلى دائرة السلوك الثقافي، وتتخذ أبعاداً سياسية ودلالات إثنولوجية (ثقافة جمعية). بعبارة أخرى حين تلصق التقية بالتشيع، وتصبح من خصائص الانتماء الشيعي، وسمة بارزة في سلوك الشيعة السياسي والاجتماعي، فتثير بالتالي تحفظات وتساؤلات واتهامات كثيرة من الجماعات الإسلاميّة الأخرى، بعضها مُبرر والكثير منها نابع من سوء فهم وعدم مراعاة لخصوصية الاجتماع السياسي الشيعي. ولسنا هنا لندافع أو نحمِّل النصوص أكثر مما تتسع له، ولكن لنسعى الى فهم هذا السلوك من مصادره والتعرف على حدوده وضوابطه، وربطه بالظرف التاريخي والسياسي الذي نشأ فيه، الذي يؤكد لنا أن الوضعية السياسية والاجتماعية تفرض بذاتها قرب جماعة معينة من سلوك التقية أو بعدها عنه. فبقدر ما تكون جماعة معينة في حالة خلاف مع سلطة مستبدة أو في وضعية تنافس معها على المشروعية، كما هو الحال بين بني أمية وبني العباس والعلويين (أبناء علي)، فإنَّ سلوك الجماعة خارج السلطة يكون حرجاً ويتطلب توازناً بين المصرح به والمسكوت عنه أو إيحاء ظاهرياً لا يتطابق بالضرورة مع المقصد الباطني. وفي الرواية عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين: «التارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب اللَّه وراء ظهره إلا أن يتقي تقاه. قيل: وما تقاته؟ قال: يخاف جباراً عنيداً يخاف أن يفرط أو أن يطغى». وكذا الأمر حين تتباين وتختلف خصوصيات أقلية معينة مع أكثرية أو غالبية الجماعات الأخرى داخل المجتمع، سواء في خصوصياتها الثقافية أو الدينية أو التضامنية، وهذا ما كان حاصلاً فعلاً في زمن الأمويين والعباسيين، حيث تشير إحدى الروايات من أن أحد الشيعة «امتُحِن في الإمامة يحلفونه»، وهو امتحان كان في أكثر الحالات أشبه بمحاكم التفتيش التي تمتحن معتقدات الشخص وانتماءاته وميوله. في حينه يكون الكتمان والتقليل من إظهار الاختلاف والتظاهر بموافقة المزاج والوعي السائد طبيعياً بل محتوماً، كوسيلة إجرائية لحفظ خصوصية تلك الأقلية داخل المجتمع الأوسع ومدخلاً للإندماج فيه في آن، وطريقة لتأكيد انتمائها للمجال العام وعدم الانفصال عنه أو القطيعة معه، وسلوكاً عملياً للتكيف الطوعي داخل الأمة. وفي الرواية عن الإمام جعفر الصادق: «إياك والمراء فإنه يحبط عملك وإياك والجدال فإنه يوبقك وإياك وكثرة الخصومات فإنها تبعدك من اللَّه». ولأن التقية ملازمة لظروف الضرورة أو الخوف على النفس والمال والعرض، فإن سلوك التقية أصبح الخيار الحصري والوحيد في الظروف السياسية الخانقة، حين تلاحق السلطة كل من يختلف عنها لا معها فقط، وفي ظروف المجتمع المتعصب الذي لا يقبل بالاختلاف والتنوع والتعدُّد وتسود فيه أجواء وتصرفات عدوانية ضد كل من يختلف عن الأكثرية من النَّاس. وهو خيار حَمَى الأقلية من جهة، وكبح دوافع القطيعة عندها عن المجتمع والمكان والبيئة التي تنتمي إليها أو نشأت في داخلها. ويمكن القول إن ممارسة التقية، بحسب هندسة الرموز الكبرى لها من سلالة الإمام علي، قد لعبت دوراً في كبح جماح الجماعات الخاصَّة أو الأقليات من التبجح بخصوصيتها وتأكيد فرادتها وتمايزها على حساب الجامعية التي تشبك الجميع داخل انتماء موحد ووفق مرجعية سياسية موحدة، كما أنها قللت من الحساسيات بين أقليات المجتمع، وعززت مناخ التواصل والبحث عن المشتركات، كسبيل لتثبيت وضعية تضامنية جامعة. وفي الرواية عن الإمام علي ابن أبي طالب: «حدثوا النَّاس بما يعرفون وامسكوا عنهم ما ينكرون». أي أنها حفظت للأقليات معتقداتها وخصوصياتها، من دون أن تدفع الخصوصية إلى القطيعة مع مكونات المجتمع الأخرى، أو إلى تضخم الخصوصية لتصبح مدخلاً إلى تفكك المجتمع وانقسامه وانهيار الجامعية بين مكونات المجتمع الواحد. لم تكن التقية خياراً ابتدائياً، يتعامل مع سائر الملابسات والوضعيات بالتساوي، بل هي رد فعل خاص على وضعية خاصَّة، تضع الفرد أو الجماعات أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما خلع الخصوصية والخروج من الذات والتلبس بمحددات عقدية وسلوكية جديدة تتوافق مع أكثرية وغالبية المجتمع، وإما الانفصال الكامل عن المجتمع وتقوقع الأقلية داخل خصوصيتها وتضخيم عصبيتها على حساب المجتمع الأوسع، وبالتالي إبراز السمات الخاصَّة للانتماء على حساب الانتماء الجامع مع الخصوصيات الأخرى. في حين أن التقية، كسلوك جماعي واستراتيجي، ساعدت الأقليات على تجنب الوقوع في كلا المحذورين، من خلال الجمع بين بقاء الخصوصية وحمايتها من التهديد، وبين حفظ الجامعية الحاضنة للانتماءات والخصوصيات المتعدِّدة، وبالتالي حفظ مستويين من الانتماء، الانتماء الخاص الذي يعبِّر عن خصوصية ثقافية وعقدية، والانتماء العام الذي هو أوسع من الانتماء الخاص، ويعبِّر عن الجامع مع كل الخصوصيات الأخرى. وقد ورد في الرواية عن الحسن بن علي أن في التقية صلاحاً لأحوال الأمة وحقناً للدماء: «إن التقية يصلح اللَّه بها أمة مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أمة تاركها شريك من أهلكهم». ويمكننا التأكيد هنا، أن التقية مثَّلت سلوكاً انضباطياً أيضاً، خفف من أجواء الاحتقان والسجال بين الانتماءات المتعارضة والمتباينة في المجتمع، وضيق هامش الاحتكاك والمواجهة بين الخصوصيات. إذ عملت التقية على حصر التصريح بالتمايز داخل أطر اجتماعية خاصة لهدف حفظ الخصوصيات ومنع المجال العام من مصادرتها أو إلغائها من جهة، ولهدف منع هذه الخصوصيات من التعريض ولو بالكلام للخصوصيات الأخرى ومنعها أيضاً من مزاحمة الانتماء العام الجامع أو الهيمنة عليه من جهة أخرى. بذلك كانت التقية من جملة الكوابح السلوكية التي رفعت عن المجتمع عبء التوتر وأبعدته من مخاطر الصدامات الداخلية، فحقنت بالتالي الكثير من الدماء فيه، بحكم ما تحمله فكرة التقية من المداراة المتبادلة بين الاتجاهات المتباينة والمتعارضة في المجتمع، ومن الضبط الدقيق بين خصوصية وخصوصية أخرى، ومن الفصل الحكيم بين الخاص والعام. وفي الرواية عن الإمام الصادق: «إنما جعلت التّقية ليحقن بها الدَّم». لكن مهما قيل حول عقلانية التقية في التاريخ، فإنه في المقابل سلوك دفاعي، استدعاه وفرضه الخلل في إدارة الصراع ونتيجة حتمية لتضخم السلطة السياسية في الواقع الإسلامي، التي لم تكتف بقمع المعارضة، بل سعت جهدها لتثبيت مشروعيتها الدينية وتأكيد الملازمة بين الانتماء الديني والولاء السياسي. أي إلغاء حيز الاختلاف، لا على المستوى السياسي فحسب بل على المستوى الاعتقادي والمذهبي. وهو السلوك الذي قوبل من قبل غير المحظوظين ممن هم خارج السلطة، بتوسيع المسافة بين المصرح عنه وبين المعتقد به. من هنا نفهم أن التقية ليست مفهوماً دينياً، بقدر ما هو ممارسة تاريخية فرضت نفسها في ساحة الصراع السياسي والتنافس على المشروعية الدينية. هي أقرب إلى استراتيجية مواجهة، وآلية إجرائية للبقاء والاستمرار، حين تنتفي مبادئ التسامح في الاختلاف السياسي أو الديني أو العقائدي. بهذا المعنى، فإن التقية ليست خصوصية شيعية، وليس نفيها والتحامل عليها خصوصية سنية، بل هي سمة الموضع والمكان الذي تتموضع في داخله الجماعات وتمارس التقية من خلاله. فلو إن السنة كانوا أقلية داخل مجتمع ذي أكثرية شيعية حاكمة، لفرض سلوك التقية نفسه عليهم وأصبح أحد أهم الخيارات المعتمدة لديهم. تتبّع مفهوم التقية وطرق ممارسته، هو تتبّع لواقع المجتمع الإسلامي في مرحلة من مراحل تاريخه، لتأكيد أن التاريخ الإسلامي ليس فقط تاريخ السلطة الحاكمة أو الموالية لها، وليس أيضاً صراع حق وباطل داخل المجتمع، أي صراعاً على المشروعية الدينية للسلطة، بل هو ايضاً واقع تفاعلي بين طبقات وشرائح المجتمع، ومسالك متعددة ومتباينة ومتنوعة داخل واقع إسلامي أوسع من واقع المتغلب أو المنتصر أو الحاكم فيه. ليست التقية سمة جهة أو جماعة بل هي سمة الاجتماع السياسي في التاريخ الإسلامي، وسمة اجتماعه الديني والمعرفي، الذي يفرض على الأقلية أن تتخفى بمعتقداتها، ويفرض على الجماعة السياسية المعارضة أن تصمت أو تتحول إلى جماعة انتحارية. إذا كانت التقية إحدى أدوات الاقلية المضطهدة، أو سلوكاً إجرائياً للتملص من إرهاب السلطة وضغطها، فإنها في المقابل مؤشر خطير، على عجز المجتمع الإسلامي عن إدارة التنوع وحماية الاختلاف أو خلق مناخات تسامح وحرية، تبيح للمعارض في السلطة أن يعبّر عن رأيه، وتسمح للأقلية المذهبية أو الدينية أن تمارس شعائرها ومعتقداتها بحرية. التقية في جوهرها، سلوك مسوَّغ عن الاستبداد، وقابل مع تبدل مواقع القوى أن يصبح مسوِّغاً للاستبداد ومنتجاً له. * كاتب لبناني.