كان نموذج لبنان الكبير، في عهد الانتداب الفرنسي، ملهماً لأكراد سورية ومسيحيي الجزيرة، وكانت الوطنية السورية أمراً طارئاً، إن لم نقل غير متشكل بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة – الأمة. وغاية الأمر أن كرد سورية كانت عيونهم مشدودة الى كردستان تركيا حيث الخزان البشري للأكراد، وحيث يمكن تحويل الدويلة الكردية السورية المزمع إنشاؤها إلى مدخل لإسناد الحلم القومي الكبير (تحرير كردستان وتوحيدها). في السياق التاريخي لفكرة فصل المكونات الوطنية، وتنمية مشاعر الصفاء القومي، جاهدت التيارات القومية العربية في سورية، وليس آخرها البعث، لتكريس التخارج بين المكونات القومية أو الطائفية هذه المرَّة، من خلال إخفائها بحجبٍ سميكة حالت دون التعارف الضروري بين المكونات الوطنية، ومعالجة مشاكل المغايرة والاختلاف بين تلك الهويات من خلال إطلاق المسارات الوطنيَّة والنصوص الدستورية المؤسِّسة لتشكيل صيغةٍ وطنيةٍ منجزةٍ جامعة، لا قطرية موقتة. في الأثناء، لا تزال القضية الكردية مثارَ سوء فهم وطني كبير، على اعتبار أنَّها من ضمن المحرّمات الداخلية، التي لا يمكن التطرق اليها ولا الاقتراب منها، فبقيت هذه القضية أسيرة النظرة الكردية الأحادية، الأمر الذي جعلها تراوح في المكان، وتفتقد التعاطف الوطني. وقد أعادت الثورة السورية للقضية الكردية شيئاً من الحيويَّة وكثيراً من الأحلام التي كانت غائرة في الماضي، فدار الحديث عن كيان كردي هذه المرة، تأثراً بفيديرالية كردستان العراق، ونتيجة طبيعية للتبعثر الأهليّ الذي ساهم النظام في تعميقه من خلال السماح لكل من الأجهزة السلطويَّة والقوى الاعتراضيَّة، ولسياسيين أكراد، بإطلاق شعارات مغايرة تماماً لما اعتمدته الحركة الوطنية الكردية منذ عقود، كالفيديرالية وحق تقرير المصير. في الهامش، يبدو الأمر برمَّته محاولةَ من جانب النظام لتكرار الصيغة الاستعمارية «فرّق تسد»، لكنه في المتن تأليبٌ محضٌ لمخاوف تركيا من مسألة إقامة كيانٍ كردي شمال سورية، يثير حفيظة الأتراك، ويودي بتركيا الرسميَّة لقبول صيغة «النأي بالنفس» عن الشأن السوري، أسوةً بالنأي العراقي واللبناني الرسميّ. لكن والحال هذه، فإنَّ الفارق الكبير بين فرنسا الاستعمار ونظام الاستبداد يكمن في اشتغال القوى الوطنية الكردية على منظومة أخلاقية وسياسية تطوَّرت عبر اعتمادها صيغة «سورية لكل السوريين» التي تمرُّ ببوابة الإقرار الدستوري بالحقوق القومية للشعب الكردي ضمن سورية موحَّدة كنصٍّ مولِّدٍ لمواطنية جديدة، وعدم الانصياع لمداهنات النظام الذي حاول إغراق الأكراد ب «الهِبات»، وهي حقوق سليبة في الأساس، مثل إعادة الجنسية السورية، وإلغاء مراسيم استهدفت الوجود الكردي ومستقبله. هكذا قدَّم الأكراد أمثولةً في مسألة الاندماج الفوري بالثورة، والمراهنة عليها، والقبول بنتائجها غالبةً كانت أم مغلوبة. * كاتب كردي سوري