«قبل ما يزيد قليلاً على ثلاثة عقود لم نكن في المملكة نعرف بعض ما تعج به الساحة السعودية في السنوات الأخيرة من مصطلحات، مثل التغريب ودعاة التغريب والليبرالية، والعلمانية، وزوّار السفارات وغيرها مما وجد من مصطلحات مثل مصطلح الملتزم، والمتشدد، والمتفلت وغيرها كثير من المصطلحات التي أراد بها مصنفوها إيجاد الفرقة في صفوف المجتمع الواحد، وخلق معسكرات فكرية، وخلق أعداء وهميين يُراد بخلقهم حجة لمن يريد أن يمرر حجته بأنه في مواجهة مع من يصفونهم بأعداء الدين. هذه المصطلحات لم تكن تعرفها بلادنا قبل قدوم فلول الإخوان المسلمين إلى بلادنا منذ مطلع الستينات الميلادية من القرن الماضي، حين تعرضوا للاضطهاد في بلادهم، خصوصاً مصر، وكذلك سورية والعراق في فترة تعرضت تلك البلدان لموجات من الأفكار الواردة، حملتها أحزاب يسارية وقومية بعثية. ولم يستطع الإخوان المسلمون أن يثبتوا قدرتهم على مواجهة تلك الأفكار ولا المقدرة على الصمود في التعايش معها ومقارعة الحجة بالحجة، وربما ذلك يعود إلى طبيعة المفاهيم القائمة عليها أفكار الإخوان الرافضة والمعادية لكل جديد وعدم وضوح ماذا يريدون، فهم يتحدثون عن القرآن والسنة كأهم مرجعياتهم الفكرية، وكلنا جميعاً لا نختلف مع ذلك ولكن الاختلاف في الفهم الخاطئ لما جاء به القرآن والسنة، وما كان عليه نبي هذه الأمة محمد «صلى الله عليه وسلم» وصحابته الأخيار عليهم رضوان الله وسلامه. هذه الضبابية في الفهم للنصوص هو ما جعل الإخوان في حال صراع مع كل من اختلف معهم وأصبحوا جزءاً معطلاً لحركة تقدم الأمة وأخذ مكانة بارزة لها بين أمم الأرض. فهم يرفضون الديموقراطية ويحرمونها، وهم يرفضون مفهوم الدساتير المنظمة لحكم الشعب، ويعتبرونها تقليداً لما عند الغرب، وهم يرفضون المشاركة السياسية لكل مكونات الشعب إلا بشروطهم. أمام ما تعرض له الإخوان في بلادهم، إذ ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، لم يجدوا ملاذاً يأويهم سوى بلادنا، ولا مكاناً يكوَّنون به ثرواتهم إلا بلادنا، ولا فضاءً رحباً ينشرون فيه أفكارهم إلا بلادنا. لم تكن بلادنا حين احتضنتهم أثناء محنتهم لتمن عليهم بشيء، فلقد مكنتهم من العمل في مجالات هم أكثر مهارة فيها، خصوصاً في حقلي التعليم والإعلام، وهما أهم وسيلتين لنشر أفكارهم ورؤاهم في مجتمع هو أقرب إلى الفطرة الدينية على المذهب السلفي الأقرب إلى ما كان عليه السلف الصالح في بساطة فهمه للإسلام. هنا وجد الإخوان في هذا الجو المجتمعي مجالاً خصباً لنشر أفكارهم من خلال نافذتي التعليم والإعلام، قبل مجيئهم كان توجه الحكومة والمجتمع يتجه نحو التعليم العصري لسد حاجة البلاد في ما كانت تفتقر إليه من الأطباء والمهندسين والاقتصاديين والصيادلة والقانونيين، ولم يكن لدينا من المدارس الدينية إلا مدرستان، واحدة في مكةالمكرمة والأخرى في المدينةالمنورة، إضافة إلى الكثير من الكتاب أو الكتاتيب التي لا تخلو منها قرية من قرى المملكة لتعليم القرآن الكريم وبعض كتب الحديث، وكانت حلقات التعليم في المسجد الحرام والمسجد النبوي تقوم بدور تعليمي لمن كان يرتاد تلك الحلقات، وتخرج في هذه الحلقات والكتاتيب وأربطة تعليمية أقامها الملك عبدالعزيز في العاصمة الرياض لبعض أبناء نجد، الذين لا يستفيد أهاليهم منهم في زراعتهم أو رعي أغنامهم، قضاة ومرشدون وأئمة. أما من كانوا يعدون لطلب العلم المدني العصري الذي تحتاجهم البلاد، فقد فتحت مدرسة في مكةالمكرمة تسمى مدرسة إعداد البعثات لإعداد النابهين من الأفواج الأولى للابتعاث إلى الخارج في البلدان العربية والأوروبية وأميركا فعادوا مؤهلين ليقودوا حركة التحديث والتطوير وبناء دولة عصرية في كل المجالات، وكان الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - يحتفل بعودة المبتعثين ويعينهم في أرقى المناصب، واستمر هذا النهج لدى من خلفه من أبنائه، ولم نكن نسمع من قبل أن هؤلاء تغريبيون عادوا من بلاد تلقوا تعليمهم فيها خارج المملكة يحملون أفكاراً تغريبية، ولا علمانيون يريدون أن يفصلوا الدين عن الدولة، ولا ليبراليون يريدون أن يغيروا سلوك ونمط حياة المجتمع، بل كان كل المجتمع يحتفي بهم، وكانوا صادقين مخلصين في خدمة مجتمعهم وبناء دولتهم الحديثة. أذكُر حينما قدمتُ إلى الرياض للمرة الأولى في منتصف عام 1960، وكنت أزور مباني الوزارات التي بنيت حينذاك حديثاً على أحدث طراز، كنت ألاحظ يافطات مكتوباً عليها المستشار القانوني، أو إدارة المستشارين القانونيين. وكنت أذهب إلى مبنى وزارة المعارف (التربية والتعليم حالياً) وكانت تبهرني فيها تلك القاعة الباهرة في وسط البناء تُسمى المسرح، ما الذي حدث بعد ذلك بسنوات؟ تحول المسرح إلى مصلى، وتحولت يافطات المستشار القانوني إلى يافطة تحمل المستشار الشرعي، وكنت كل أسبوع أذهب لزيارة أقربائي، وهم طلاب في كلية الملك عبدالعزيز الحربية لمشاهدة فيلم سينمائي في مبنى يُسمى سينما الكلية، وحينما ذهبت بعد ذلك إلى المنطقة الشرقية كنت مع بعض زملائي نذهب لمشاهدة السينما مرتين في الأسبوع، مرة في سينما مطار الظهران، وأخرى في سينما عمال «أرامكو». ولم يكن أحد يقول إن هذه مظاهر تغريب، حينما كنت طالباً في كلية الآداب في جامعة الملك سعود كنا كلجنة طلاب تعني بالشؤون الثقافية والترفيهية في الكلية، نعرض في نهاية كل أسبوع فيلماً سينمائياً في إحدى قاعات الكلية، أو في مبنى مدرج في المكتبة المركزية بالجامعة، لم يكن أحد يقول إن هذا مظهر تغريبي، أو يقود إلى التغريب ما الذي حدث؟ كنت بعد تخرجي في المدرسة الابتدائية أحلم ومعي زملائي أن نكمل تعليمنا الثانوي الذي يقودنا إلى الجامعة؛ ومن ثم اختيار ما يروق لنا من تخصص. ولم يكن هناك من نافذة تعليمية تقود إلى الجامعة سوى المدارس الثانوية استمررت في طلب تعليمي الثانوي الذي سيقودني إلى فضاءات رحبة، أما زملائي - وهم كثر - فقد شاء بهم القدر أن يُفتح المعهد العلمي للمرة الأولى في مدينة أبها ولكي يُرَغِّب الطلاب في الالتحاق بذلك المعهد تم إغراؤهم بمكافأة مجزية مقدارها 300 ريال شهرياً لكل طالب؛ لذا انصرف الكثير إلى المعهد العلمي وأقفلت المدرسة الثانوية لبعض السنوات لعدم توفر طلاب كفاية، وتحول الراغبون وهم قلة لمواصلة تعليمهم الثانوي في الطائف. لم تخلُ مدينة بعد ذلك من معهد علمي بمشورة من طلائع الإخوان تقليداً لما كان يقوم به الأزهر في مصر بتغذيته بطلاب المعاهد العلمية الشرعية التي افتتحها في الكثير من القرى والنجوع المصرية. أنا لست ضد المعاهد، ولكن ضد التوسع فيها وضد الطريقة التي تدار بها والمناهج التي لم يطالها شيء من التطوير والتغيير، ما سيكون له انعكاس على عقليات خريجيها، وهم ممن سيتولون القضاء عند التحاقهم بالكليات الشرعية والدعاة والمرشدين، لأنني أتمنى أن يكونوا قريبين من واقع المجتمع الذي يعيشون فيه وغير منفصلين عنه. كان لسيطرة الإخوان على التعليم والإعلام الأثر الكبير على ما شهده مجتمعنا من تحولات فكرية وثقافية واجتماعية، إذ أرادوا أن يوجهوا التعليم على الطريقة التي يريدونها، وأن يصيغوا المناهج على الطريقة التي تتوافق مع منهجهم، ووضعوا «وثيقة سياسة التعليم»، التي تشبه في بنيتها القانونية «منفستو» الإخوان الدعوي، والتي لازالت إلى الآن وكأنها نص مقدس لا يجرؤ أحد على مناقشتها أو تطويرها بما يتناسب مع ما تشهده البلاد من حراك. حتى حينما كنت عضواً في مجلس الشورى، وعضواً في اللجنة التعليمية من كان يجرؤ على الحديث عن هذه الوثيقة وثيقة سياسة التعليم، لأن الإخوان وضعوها وأوجدوا من طلابهم حماة صادقين مستميتين في الحفاظ عليها وعدم المساس بها، وعلى استحياء وربما مشوب بخوف أسمع بعض الحديث عنها في هذه الأيام. مثل وثيقة سياسة التعليم كانت وثيقة سياسة الإعلام التي صاغها جهابذة الإخوان المسلمين التي ظلت لعقود هي الوثيقة التي لا يحيد عنها إعلامنا السعودي الذي ظل متخلفاً في ظل كل ما تشهده وسائل الإعلام من حولنا وفي العالم من تطور مذهل، ما جعل الغالبية الساحقة من المشاهدين السعوديين ينصرفون عن مشاهدة إعلام وطنهم. والويل لكل من يجرؤ على الكلام ناقداً لإعلامنا، لأنه أصبح في صيغته الإخوانية من الثوابت التي على طلاب الإخوان المخلصين الاستماتة في الدفاع عنها وإصدار أحكام التخوين والتصهين والتغريب والمروق على الدين لمن يجرؤ على الكلام، ومناقشة ما جاء في تلك الوثيقة، وهذه أساليب ماركة مسجلة في خطاب الإخوان وأتباعهم. كنا في مجلس الشورى نخشى أن نقول كلمة قانون حتى وإن كنا نناقش قانوناً دولياً، مثل قوانين البحار، أو قانون مكافحة الفساد، لا تقل قانوناً، بل قل نظاماً. من تأثير فكر الإخوان ألغيت أقسام القانون في الجامعات السعودية، ولم تعد تلك الجامعات تخرج قانونيين أو محامين، وما أحوج البلاد إليهم، فحين وجدت الدولة نفسها مضطرة بحكم موقعها وأهميتها بين دول العالم إلى الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، كان لقبول هذا الانضمام شروط كثيرة، من ضمنها ضرورة تطبيق قانون أو نظام الإجراءات الجزائية، وبموجب هذا النظام يترتب عليه أمور كثيرة في ما يتعلق بالتعامل مع المواطن من وجهة نظر حماية قانونية من ضمنها ضرورة وجود محامٍ قبل وأثناء فتح محضر التحقيق مع أي مواطن، وجدنا أنفسنا في ورطة ليس لدينا قانونيون ولا محامون، وقيل لنا إذا طبق هذا النظام (القانون) فإن البلاد بحاجة إلى ما لا يقل عن خمسة آلاف محامٍ، وهل من الميسور أو المنطق استقدام هذا العدد الكبير من المحامين! الحل في ما تبناه الملك عبدالله من إصلاحات، من ضمنها عودة الحياة إلى كليات وأقسام القانون في الجامعات، بما في ذلك إحداث أقسام للقانون في الكليات وأقسام البنات التابعة للجامعات. هذا أمر لم يكن مقبولاً لدى دعاة التشدد المتأثر بأفكار الإخوان، خصوصاً الجناح القطبي منهم. ويشنون حملات الإقصاء والتخوين والتصهين والتغريب ضد من يحمل أفكاراً تطويرية، على رغم أنها لا تؤثر على ثوابت هذا الوطن، وإن كان لي رأي ودعوى ناديت بها في أكثر من مناسبة إلى ضرورة وضع تعريف شامل جامع لمفهوم الثوابت وفتح الحوار حولها؛ لأن من المصطلحات الضبابية والمطاطة التي يستخدمها البعض لتمرير ما يريد منها مثل الثوابت، الضوابط، الخصوصية. حينما عدت إلى المملكة بعد سنوات من البعثة كانت البلاد شهدت ما يسمى بالصحوة، وهي صناعة إخوانية تلقفها قومنا بخلطة سلفية فطرية، وهو ما عليها الحال في معظم مكونات المجتمع السعودي، ورأوا بأن هذه الصحوة تعني العودة إلى ما كان عليه السلف من دون أن يأخذوا في الحسبان بأنهم يعيشون في عالم متغير في ما يفصله عليه السلف قرون طويلة، فتمسكوا بالظاهر من معالم هذه الصحوة، ولكن هناك من كان يريد من الصحوة شيئاً آخر، وهو تمرير مشروعه السياسي وهو ما أصبح يُعرف بمشروع الإسلام السياسي، الذي وظف الصحويين السلفيين البسيطين لمشروعهم من دون أن يدركوا فزُج ببلادنا وأبنائنا في معارك جانبية بعضها لا ناقة لنا فيها ولا جمل. والكل يدرك ماذا كانت النتائج. شهدت فترة هذه الصحوة حرباً شعواء بين أتباع الصحوة وما عُرف حينذاك بدعاة الحداثة أو الحداثيين، ضيعنا عشر سنوات في حرب خاسرة بين طرفين كان الخاسر الأكبر هو الوطن، وذلك بانقسام المجتمع إلى فسطاطين تقليدي متمسك بتقليديته، ولو من باب المناكفة للطرف الآخر، وحداثي يدعو إلى تحديث وتطوير المجتمع وإعادة النظر في بعض نصوص الفقهاء وقراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة. كان الطرف التقليدي ينظر إلى أصحاب الطرف الآخر، مهما كانت صدق نيات بعضهم، بأنهم تغريبيون متأثرون بالحضارة الغربية، وبأنهم علمانيون وليبراليون يدعون إلى الرذيلة وإشاعتها في المجتمع وبأنهم خونة لأمتهم، ولا يقولون خونة لأوطانهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالوطنية، وهذه أحد مرتكزات الفكر الإخواني الذي قال مرشده ذات مرة «طز في مصر»، وهي وطنه، لإيمانه بأممية إسلامية تحقيقها إلى الأحلام أقرب من الواقع, وهم برفع هذه الشعارات أضعفوا أوطانهم. ولم يسهموا في رفع شأن أمتهم. ولهذا نرى الأوطان العربية والإسلامية أكثر تخلفاً، والشعوب أكثر فقراً وتناحراً وتشرذماً. حينما التحقتُ بالجامعة بعد عودتي من البعثة ما من ندوة أحضرها في الجامعة أو في المنتديات الأدبية إلا وأسمع مصطلح «أسلمة» العلوم، يريدون أسلمة الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة وعلم الاجتماع والتاريخ والسياسة وكل شيء، وأسلمة مسميات الأماكن والمنشآت، مثل ميناء كذا الإسلامي، مطار كذا الإسلامي، مخبز كذا الإسلامي، مجزرة كذا الإسلامية، ولو كانت في قلب مدينة بريدة، ومبخرة كذا الإسلامية، وعباءة كذا الإسلامية، وإلى ما غير ذلك، والويل لمن كان له رأي يختلف فيه مع القوم سينعت بتلك النعوت، تغريبي، علماني، ليبرالي، صهيوني، أميركي، وما غير ذلك من مصطلحات، بكل أسف، تنطلي على السذج والبسطاء. ويستفيد منها أصحاب الأهواء». * عضو مجلس الشورى سابقاً. - الورقة لم تلق بسبب ظروف خاصة.