إذا كنت ممن يدخنون علبة سجائر يومياً ومضى على إدمانك على التدخين ما يزيد على عشر سنوات، فأنت تصنّف طبيّاً في فئة «المُدخّن الثقيل» (هيفي سموكر - heavy smoker)، ومعرض أكثر من غيرك لمرض «الانسداد الرئوي المُزمِن» الذي يحتّل المرتبة السادسة عالمياً في أسباب الوفاة. ويقول أحد المصابين بالمرض عن حاله، بعد أن ثبّت على أنفه أنبوباً يضخ الأوكسجين الى رئتيه بشكل شبه متواصل: «انه مرض عُضال، والشفاء منه يشبه الحلم». ولخص معاناته مع المرض بجملة موجزة: «تحتاج الى المال باستمرار كي تبقى على قيد الحياة». ملايين مجهولة وأظهرت دراسة اقليمية أُجريت عن المرض في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا أخيراً، أن ما يزيد على 13 مليون نسمة فيها يعانون مرض «الانسداد الرئوي المُزمِن» بأثر من تدخين السجائر، مع وجود أعداد لم تُحدّد بعد ممن يصابون بالمرض عينه نتيجة تدخين أنواع اخرى من التبغ مثل النارجيلة (الشيشة) أو التعرض لدخان الوقود أو ملوّثات اخرى». ولفتت الدراسات إلى أن معظم المصابين بالمرض لا يعرفون بوجوده، فيما المعرضون للإصابة به تفوق نسبتهم 30 في المئة من السكان. وأوضحت البروفسورة ماري لويز كوينسكي، وهي من اللجنة التوجيهية للدراسة التي أنجزتها شركة «غلاسكو سميث كلاين» وأطلقت عليها اسم «تنفس»، أن الأرقام التي توصلّت إليها الدراسة لا تشكّل سوى القمة الظاهرة من جبل الجليد، بالمقارنة مع ما يمكن أن تكونه أرقام المرض فعلاً. وبيّنت أن نسبة مرضى «الانسداد الرئوي المُزمِن» Chronic Obstructive Lung Disorder (سي أو بي دي - COPD) الذين لا يدرون بإصابتهم يشكلون 80 في المئة من الإصابات الفعلية بالمرض، إذ لا يشعر المريض بوجع ولا بعوارض مقلقة تجبره على التوجّه الى الطبيب، كما ان الاطباء لم يدخلوا في بروتوكول فحص المريض أن يطلبوا من المدخنين إجراء تخطيط للجهاز التنفسي، وهو يُشبه تخطيط القلب. وأفادت كوينسكي التي ترأس قسم الامراض الصدرية والعناية الفائقة في مستشفى رزق في بيروت، بأن السعال وإخراج البلغم واللهاث عند صعود السلالم، أعراض ربما اعتبرها البعض طبيعية وأن لا علاقة لها بالرئة أو التدخين، بل يبرّرها كثيرون ويحاولون التعايش معها أو التحايل عليها، كأن يهجر بعضهم صعود السلالم مؤكّداً لنفسه أنه بخير! واعتمدت الدراسة التي أُعلِنت نتائجها في بيروت أخيراً، على عيّنات عشوائية ممن تجاوزت أعمارهم 40 سنة في العراق ومصر وسورية والجزائر والاردن والمغرب وباكستان وتونس وتركيا ولبنان ودولة الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية، بين تموز (يوليو) 2010 وكانون الأول (ديسمبر) 2011. وبيّنت أن كثيرون من هؤلاء عانوا عوارض «الإنسداد الرئوي المُزمِن» من دون أن يُشخّص المرض من جانب أطبائهم. وركّزت الدراسة على من تجاوزوا عمر الأربعين بهدف استبعاد مرض الربو، الذي يظهر في سنّ مبكّرة. تراجع بطيء قبل توقف الأنفاس وأوضح الدكتور جورج خياط رئيس «الجمعية اللبنانية للأمراض الصدريّة» أن تقلّص سعة الرئة وأنفاسها يحتاج إلى وقت كي تظهر عوارضه كافة، «اذ تتراجع وظائف الرئة تدريجاً، وتتزايد الحاجة المُلحّة إلى الأوكسيجين، بل كثيراً ما يرفض المريض، في ردّ فعل أوليّ، تقبّل واقع أنه مُصاب بالإنسداد الرئوي المُزمِن عندما يُبلّغ بتشخيص وجود هذا المرض لديه». وأكّدت كوينسكي ان «لا شفاء نهائياً من المرض، هناك أدوية تحسّن وضع المصاب به، على غرار المُصاب بالسكّري أو ارتفاع الكولستيرول. ففي هذه الحالات، يتناول المريض أدوية تُحسّن وضعه، لكنها لا تشفيه»، مشدّدة على أهمية التشخيص المُبكّر للمرض كخطوة أساسية في الوقاية والمعالجة، ما يؤشّر الى أهمية نشر الوعي بهذا المرض. كيف السبيل إلى الوقاية في مجتمعات تعتبر ضيافة السجائر واجباً إجتماعياً، وتدخينها بين غير المدخنين أو في الأماكن المُغلقة ليس محظوراً؟ كيف الوقاية مع وجود أطباء يدخّنون بشراهة، إضافة إلى المخاطر التي يحملها تدخين النارجيلة واتّساع ممارسة هذه العادة بين الشباب والنساء وحتى الفتيّة؟ وأوضحت كوينسكي أن آثار تدخين النارجيلة ربما يظهر خلال العقد المقبل، متوقّعة أن يتصدّر مرض «الانسداد الرئوي المُزمِن»، قائمة الأمراض المُفضية إلى الموت عام 2020. وأشارت الدراسة البيروتية المذكورة إلى أن العديد من المرضى على دراية ضعيفة بمرض «الانسداد الرئوي المُزمِن» وطُرُق مواجهته، وأن 30 في المئة من المرضى ليسوا متأكّدين من السبب الكامن وراء إصابتهم به، بينما ينكر 50 في المئة منهم أن يكون التدخين سبباً محتملاً للإصابة، مع الإشارة إلى أن معدّلات التدخين في الشرق الأوسط تصل إلى قرابة 30 في المئة من السكان. وزاد قلق القيّمين على الدراسة البيروتية أن ما يزيد على 65 في المئة من مرضى «الإنسداد الرئوي المُزمِن» استمروا في التدخين بصورة منتظمة! وبيّنت الدراسة أيضاً ان اجمالي تفشي المرض في ال11 دولة التي تناولتها، يلامس ال3.6 في المئة، ما يعادل تقريباً نسب المُصابين بالربو أو الفشل المُزمِن في عضلة القلب، كما أنه أعلى بعشرة أضعاف من نسبة المصابين ب «مرض نوبات كهرباء الدماغ» (الصرع). وشدّدت الدراسة على أن نسبة تقلّ عن 10 في المئة تخضع للعلاج! ولاحظت الدراسة أن مرض «الانسداد الرئوي المُزمِن» استوفى صورته السريرية، بمعنى ظهور معظم عوارضه أو وجود عوارضه كلها، في المرضى الذين يعيشون في سورية والاردن ولبنان. وبيّنت أن اللبنانيات (وبعدهُنّ التركيات) كُنّ الأعلى تدخيناً للنارجيلة، علماً ان نسبة المدخنين للسيجارة بين شعوب الدول موضوع الدراسة، قُدّرت ب 30 في المئة (45 في المئة رجال و13 في المئة نساء). وحلّ لبنان في مقدّم الدول التي يرتفع فيها التدخين الذي طاول 42 في المئة من سُكّانه، وتلته وتركيا (23 في المئة). ولفتت الدارسة إلى وجود شبه إجماع لدى الأطباء على القول ان الوقاية تشّكل الحجر الأساس لمنع تمدّد هذا المرض وتواصل انتشاره، لا سيما في الاجيال الفتية. ونبهّت الى ضرورة أن يُدرِج الأطباء تخطيط الجهاز التنفسي ضمن ممارستهم اليومية، واقناع شركات التأمين الصحي والمؤسسات الضامنة لصحة الناس بتغطية تكاليف هذا التخطيط، على شاكلة السهولة التي توافق بها على تخطيط القلب. وأوصت أيضاً بضرورة رفع أسعار السجائر وأنواع التبغ كافة، ومنع غير البالغين من شراء السجائر. وتردّدت في جنبات هذه الدراسة، أصداء عبارة قالها الدكتور بيتر درومان رئيس الجامعة الأميركية في بيروت لطلابه ذات مرّة: «التدخين خيار، أما التنفّس فليس كذلك». طرق «ترويض» الأعراض ربما تتشابه أعراض مرضي «الانسداد الرئوي المُزمِن» ونوبات الربو، لكن مريض الربو يتمكّن بعد تناول الأدوية من التنفّس بشكل عادي، على عكس مريض «الانسداد الرئوي المُزمِن» الذي لا يعود إلى حاله الطبيعية أبداً. وفي العادة، تبدأ أعراض «الانسداد الرئوي المُزمِن» بالسعال الذي يميل تدريجاً لأن يكون مستديماً. ومع الوقت، يعاني المريض من زيادة إفراز البلغم، وصدور صوت صفير من الصدر، وصعوبة التنفس حتى من دون بذل مجهود. ويسبّب «الانسداد الرئوي المُزمِن» ضيقاً في ممرات الهواء في الرئة، ما يزيد صعوبة تحرّك الهواء أثناء الدخول إلى الرئة والخروج منها. ويتعرّض المصابون بهذا المرض للاصابة بالأمراض الصدريّة المُعدِية أكثر من غيرهم، ما يساهم في تفاقم حال المرض لديهم. ومع استفحال «الانسداد الرئوي المُزمِن»، يضطّر المريض إلى التوقّف عن العمل بسبّب المُشكلات التي يعانيها، وربما عانى اعتلالات اخرى تشمل القلب والشرايين. وقد يضطّر كثيرون من المرضى إلى الحدّ من نشاطاتهم اليومية، بهدف التعايش مع المرض. وعلى رغم ان لا علاج يشفي من «الانسداد الرئوي المُزمِن»، الا ان عدداً من التدخلات الطبية ربما تساعد على «ترويض» عوارض المرض. ولعل أهم خطوة في هذا هي وقف التدخين، خصوصاً عندما يكون المرض في مراحله الأولى، وتكون عوارضه خفيفة، ما يرفع من احتمال ألا يحتاج المريض إلى معالجة طبية واسعة. ويشمل علاج الحالات المتقدّمة من المرض، استعمال أدوية تُستنشَق فتخفّف عوارضه لوقت محدّد. وتشمل مُكوّنات هذه الأدوية، موادّ منها ال «كورتيزون» الذي يخفض درجة التهاب الرئة، ما يمنح بعض الراحة للمريض. وفي حالات اخرى، ربما احتاج المريض الى تنشّق الأوكسجين لفترة طويلة يومياً.