«إبدأ بنفسك»، حكمة يونانية قديمة، تطل علينا بين ثنايا فيلم أحمد حلمي الجديد «ألف مبروك». حكمة وافدة على مجال الكوميديا، يتبناها الأخوان أحمد وخالد دياب تأليفاً وأحمد جلال إخراجاً. الفيلم يدعو جمهوره لإعمال العقل ومراجعة الأفكار، واتخاذ موقف إيجابي من الآخر. ولكن هل يستطيع الإنسان أن يغيّر من القدر؟ ذلك هو السؤال الذي يدخر المخرج إجابته الى ختام الفيلم. وهو ذاته المفتاح السحري الذي أهداه كريم الصديق الصدوق لأحمد الى (أحمد حلمي)، من أجل أن يخفف عنه القلق الذي يجثم على صدره، من جراء سلسلة من الكوابيس التي تداهمه في يوم زفافه، لتنتهي كلها نهاية واحدة، وهي مصرعه أمام شاحنة ضخمة، ذلك وهو في كامل وجاهته في مواجهة الفندق الفخم، حيث تقام ليلة العرس. بعد هذا يكتشف المشاهد أن ما يدور على الشاشة واحد من الكوابيس، حين يصحو أحمد فزعاً على صوت زغرودة تطلقها أمه، تلك الزغرودة التي تتكرر لتوقظه من الكوابيس، وفي ذات الوقت تخفف أزمة المشاهد. ومن هنا يلتقط المرء أحد الملامح الأسلوبية للمخرج على مدار السرد، حيث يتقدم الصوت عن الصورة لإثارة التشويق، كما يقوم بتركيب صوت المتكلم على صورة المستمع لرصد رد الفعل عليه، ليبقى أحمد حلمي دائماً على الشاشة متكلماً أو مستمعاً. فنانون مجددون من هذه السطور نأمل ألا يتوقع القارئ أن نعرض فيلماً هزلياً يضحك الجمهور بشخصيات متغابية تلقي «إفيهات» مستهلكة في مواقف ساذجة، فقد أكد لنا أحمد حلمي ومن يتعاون معه، خصوصاً في فيلميه الأخيرين «كده رضا» و»آسف على الإزعاج»، أنه فنان مجدد يكسر القوالب ولا يرتكن للتقليد، فاستحق بجدارة ما استحقه من مكانة في السينما المصرية والعربية. وللمشاهد أن يتساءل عن الكوميديا التي راهن عليها أحمد حلمي جمهوره؟ في «ألف مبروك» يقدم حلمي لوناً مختلفاً من الكوميديا. كوميديا تفيض عن اللامبالاة ثم القلق والشك. كوميديا ترتكز على حوار ثري بالمفارقة والإعادة وتبادل الأدوار إضافة الى خفة روح للفنان، تطالعنا كل صباح حين يستأثر بدروة المياه من دون والده المتعجل لتصريف مصالح الناس. وتتسع ابتسامة المشاهد أمام لا مبالاته في ملاحقة اللص سارق حقائب السيدات، وجمود عواطفه أمام مسن صدمته سيارة طائشة. وتمتد الكوميديا لتشمل الآلية التي تطبع أداء ضابط الشرطة لعمله في القسم، اضافة الى حوار حلمي مع سائق التاكسي الظريف. في تحد للجمهور يصيغ الأخوان دياب السرد من عشر كوابيس متماثلة ومتباينة، في ذات الوقت، يتضمن كل منها مواقف بعينها من حياة أحمد اليومية، سواء تلك التي تجمعه بأفراد أسرته في شقتهم الأنيقة، والتي صممها مهندس الديكور باسم حسام ليغمرها مدير التصوير أحمد يوسف بدرجات من العتمة، تشي بما يعتمل في دواخل الشخصيات من المعاناة الصحية والحياتية، ذلك باستثناء الإضاءة المشرقة لحجرة شقيقة أحمد الرقيقة سارة عبد الرحمن والتي تضفي بهاء على السرد حيث تعيش قصة حب عبر «النت» مع كريم صديق شقيقها، نشاهدها قبل الختام وهي تدور حول نفسها كما الفراشة في فستان من الشيفون الوردي بعد أن أطرى أحمد – على غير العادة – على فستانها ومكياجها. خلال الكوابيس يلتقي أحمد بشخصيات عابرة، فضلاً عن زميله ومرؤسيه في شركة الأوراق المالية، ويقدر المهندس الديكور اختياره لدرجات السلم الحلزوني في الشركة ليشهد صعود وهبوط العلاقات بين أحمد ومرؤوسيه وأيضاً حركة الأسهم في البورصة. على درجات السلم يلتقي أحمد بمرؤوسيه فيباركون زواجه، ثم يمر بهم ليدعون الله عليه حين يصلهم الأمر بإنهاء تعاقدهم مع الشركة ولا يفوتنا الإشارة إلى كفاءة «المونتير» معتز الكاتب في الإضافة والحذف لتفاصيل الموقف ما يكفل عدم استنساخ كابوس من سابقه أو لاحقه. إضافة الى عنايته بترتيب الكوابيس تنازلياً من حيث المساحة الزمنية، ليدفع بالإيقاع نحو الذروة لتتلاحق الكوابيس ويتأزم الحال ويوقن أحمد من نهايته فيقرر الامتناع عن الذهاب الى الحفل. شخصية مبتكرة يثري الفيلم كوكبة من الفنانين المجيدين قدموا شخصيات حية، سواء من الوجوه الشابة أو من تجاوزوا سن الشباب، منهم القديرة ليلى عز العرب، والأب المتفاني في رعاية أسرته محمود الفيشاوي، اضافة الى الموهبة الشابة سارة عبدالرحمن. لقد عايش كل من عز العرب والفيشاوي، الشخصيات رغم أنهما يواجهان الكاميرا للمرة الأولى، ربطتهما ألفة ومودة جميلة خصوصاً في مواقف الأزمات الصحية، يتكتمان إصابة الأم بالسرطان رفقاً بالأبناء. يفيض دفء المشاعر حين يحقن الزوج زوجته بالمخدر ليخفف آلامها. ومن الطريف أن تلومه في كل صباح وبأعلى صوتها على غفلته عن غلق باب الثلاجة وتدعوا الله على الجميع لاتكالهم عليها. ويقف على رأس الفريق الفنان أحمد حلمي بحضوره ولياقته وخفة ظله. يقدم شخصية مبتكرة وافدة على الكوميديا، لشاب من زماننا فخور بذاته، معني بأمره، اتكالي ولا مبالي في الصباح يسأل والده إن كان جهز أقساط سيارته وشقة الزوجية. وفي الشركة ينهي عقود بعض مرؤوسيه لتخفيف الأعباء عن ميزانية الشركة. وفي محيط الأسرة يتعامل مع شقيقته بجفاء. وهو في العموم لا يتعاطف مع أزمات الآخرين وتطفو البسمة على شفاه المشاهد لأنه يعرف أناساً يشبهونه، أناساً يعيشون بيننا. تضحكه المفارقة بين ما يكون وما يجب أن يكون. يتأزم البطل حين يوقن من نهايته فيحاول أن يهرب في طائرة تحلق به عالياً أو على ظهر جمل يقطع الصحراء الخارقة لينتهي الكابوس بنهايته. تتعاظم أزمة أحمد حين يتملكه الشك، فيتوهم أن أمه مدمنة وأباه مختل وشقيقته الرقيقة فاجرة ولكنه بالمواجهة تنكشف له الحقيقة. ويتحول من السلبية إلى الإيجابية، فيتغير الواقع من حوله وتتوقف الكوابيس. يحنو على شقيقته ويصلح الموقف المالي لوالده ويواجه سارق حقائب السيدات والسائق الأهوج، ويصل الأمر إلى أن يحلق شعره تضامناً وتعاطفاً مع أمه التي بدأت رحلة العلاج ليجمعهما موقف فياض بالمشاعر حين تلمس خده وتهمس له بين دموعها أنه «أجمل ابن في الدنيا». يعتمد السرد على صياغة مركبة، حتى يخال للمشاهد أنه في مواجهة لغز عصي على الحل، غير أنه بعد كثير من التفكير يشي الفيلم بأسراره ويهدي المشاهد الجاد مفتاحه. فيلم «ألف مبروك» لمخرجه أحمد جلال فيلم مشوق وعمل غير عادي يرسم البسمة على شفاه المشاهدين ويدعوهم للتفكير، يمنحهم الأمل في التغيير الواقع. وفي الوقت نفسه نلاحظ أن الفيلم يتحدث عن الإيمان بالقدر ومؤكداً على عجز الإنسان عن تغييره!