التنمية والوعي والحضارة والرقي والتقدم، مصطلحات بينها رحم يجب أن توصل عبر منظومة التكامل وبطريقة تتشابك فيها المصالح والمصائر، لكن هذه الكلمات والمصطلحات أصبحت في الواقع المتراجع ضحية الاستخدامات السلبية والتوظيفات الرديئة، ولكل أحد أن يفسر ما شاء بما يشاء، من هنا تتبدد الجهود وتهدر الطاقة وتتضاءل النتائج، إلى حد يقلقك بدهشته حين تكون المجتمعات الأكثر نمواً هي الأقل تنمية، هذا إذا كان الفرق واضحاً لديها بين النمو والتنمية... ولقارئي الكريم أن يعلم أن النمو هو ما يحدث بشكل طبيعي، مثل زيادة عدد السكان، الذي يؤدي إلى تراكمات تنشأ بسببها التزامات وواجبات وحقوق، بيد أن التنمية تقتضي الفعل والتخطيط والجهد المنظم في كل ميادين وحقول التنمية الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، ولعلي هنا، وبحكم ما أفهم، أتحدث عن التنمية الاجتماعية وفي جانب منها، وهو التخطيطات والتنظيرات، أو الممارسات والأفعال التي تضاد التنمية، ولاسيما من داخل الكيان لا من خارجه. أولها: ضعف الوعي الاجتماعي، وهو الذي تتوفر فيه المعلومة وطريقة استخدامها واستثمارها بشكل صحيح، أي أننا نتجاوز محو الأمية وتوفير أدوات التعليم إلى توفير المعلومة وتداولها واستثمارها إلى أن يتحول المجتمع إلى مستوى جيد من التفكير العلمي الذي يتجاوز فيه الخرافة والسطحية والأسطورة إلى الحقيقة. المجتمع يهدد الكثير من معطيات التنمية في التعليم والاقتصاد والفكر والثقافة، لأن القيمة لهذه الأشياء مبخوسة عنده، فهي أمور لا تحسن معيشته ولا تلامس تطلعاته، أي أنها وإن كانت جيدة ورائعة إلا أنها تتحرك في مجتمع مشغول عنها لا مشغولاً بها! فكان الأولى أن تسوى أرضية مجتمعية للقبول والتقبل تتحقق فيها مقومات الوجود الكريم قبل إطلاق مشاريع التنمية! ثانيها: ضعف الثقافة القانونية التي يتعرف من خلالها الناس على الحقوق والواجبات، ولهذا فإن الوضع الدستوري والقانوني من أهم واجبات الدول ومؤسساتها، وهو حين يتحول إلى ثقافة مجتمعية ومؤسساتية فإنه الداعم الرئيس للتنمية، والشيء يتضح بضده، فحين يغيب القانون وسلطته يختل التوازن الاقتصادي والاجتماعي وتهرب الاستثمارات، أو تتعثر عن الاستمرار بلا ضمانة حقوقية، بل إن هذا الوضع يحبط ما كان في رحم الأفكار لدى الفئة الشابة الطامحة. ثالثها: مخرجات التعليم، وبحسب القانون فإنه لا صدى بلا صوت، وهكذا فإن مخرجات التعليم هي مدخلاته تمر عبر قنوات بشرية... التعليم أولاً وثانياً وثالثاً، ومن المهد إلى اللحد، تلك المناهج والتطبيقات، وأولئك القائمون على التعليم والتعلم هم أنفع وأقوى دعائم التنمية، وهم في الوقت نفسه أضر وأشقى ما تصاب به التنمية، ومن هنا فنحن مدعوون إلى بلورة التعليم بكل مراحله ليلبي أبعاد قوتنا، وقوة أبعادنا، نزدهر فيه في واقعنا ونرسم من طلائعه مستقبلنا. رابعها: أغلاط التدين، ذلك أن المجتمعات متدينة بفطرتها وبما تفهمه من مصادر تشريعاتها، ونحن نمتن لله تعالى على دين الإسلام، ونجد فيه قوة داعمة للحياة واستثمار الوجود، حين يقول ربنا (خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، وفي الحديث «إن هذه الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون»، إلا أن الفهم الديني وهو ممارسة بشرية غير معصومة تخضع لظروف التعلم وقدرات الفهم ولياقة الذات نفسياً واجتماعياً تؤثر في إفراز حالات من التشدد والممانعة بتحريم المباحات وتضييقها، والناس كما يقول الفقيه ابن تيمية «لا يسعهم إلا المباح، فإذا فعلوا ما يدخلهم الجنة لم يمنعوا إلا مما يدخلهم النار»، فعجيب أمرنا حين نمانع من عمل تنموي، لا لشيء إلا لأننا لا نعرفه أو لم نألفه، وحين يفوت الوقت فإذا بالمحرمين للشيء يستخدمونه ويروجون له، ولذا لما يقرر علماء المقاصد فقه المآلات ومصائر الأمور فإن هذا يمثل وعياً استباقياً في الفقه الإسلامي الجميل. [email protected] twitter | @alduhaim