حين خطب الرئيس المصري محمد مرسي خطبته المرتقبة في أحضان مجلس الشورى أول من أمس، لم يتخيل أن أرقام النمو وتضاؤلات التضخم وتضخمات الاستثمار وانتعاشات السياحة وتسديدات الديون وإنجازات الاستصلاح والاستزراع وفرص العمل الهائلة ستتحول من بشرى تهز القلوب وفرحة تدمع العيون إلى دهشة تخرس الجميع وضحكة تدغدغ المشاعر. المشاعر الجارية دغدغتها منذ نحو خمسة أشهر، تارة بالدق على الأوتار الدينية، وتارة بعزف سيمفونية الاستقرار، وتارة أخرى بترتيل أنشودة «العجلة تدور»، تعرضت في الجزء الذي تناول الاقتصاد في خطاب الرئيس إلى أقصى درجات الدغدغة التي قاربت الزغزغة وهو ما أدى إلى تفجر موجة ثورية ضاحكة شملت المصريين بكثير من المرح والسعادة. ويبدو أن صدمة الدهشة أو دهشة الصدمة أصابت كثيرين عقب الخطاب، وذلك بعدما ظن بعضهم أن الأرقام والإحصاءات والإنجازات الاقتصادية تتعلق بدولة أخرى، ولولا موسيقى «عظيمة يا مصر» التي صدحت من المذياع، وصوت «الست» معلنة أنه «وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي» مع خلفية صورة مجلس الشورى، وانفضاض حشود التأمين وانصراف مواكب الرئيس، وعودة الهرج والمرج إلى شارع القصر العيني، لظنت الجموع المنتظرة بأن الخطاب السابق هو لدولة أوروبية شقيقة أو آسيوية صديقة، وأن الخطاب الخاص بمصر سيليه. لكن الخطاب الخاص بمصر لم يأت، وإن أتت بدلاً منه موجات عارمة من التمجيد «الإخواني» والتحليل الاقتصادي والتشكيك الليبرالي والضحك الشعبي، فرموز الجماعة وقادة حزب «الحرية والعدالة» اعتبروا خطاب الرئيس نصراً مبيناً وإنجازاً مهيباً يخرس ألسنة المعارضة غير المسؤولة ويمهد الطريق للاستقرار ويعبد القنوات «علشان العجلة تدور». أما المحللون الاقتصاديون الذين لا يعترفون إلا بالرقم دليلاً وبالنسبة برهاناً وبقواعد الاقتصاد تفسيراً فوجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه، فهم إن عادوا إلى حديث الإفلاس المبني على الأرقام والمرتكز إلى الحقائق سيجدون أنفسهم في خانة الاتهام الرئاسي المباشر. فالرئيس قالها واضحة كاشفة لا رياء فيها: «الذين يتحدثون عن الإفلاس إنما هم المفلسون». وعلى رغم ذلك فإن الأرقام والوثائق التي تؤكد عكس ذلك تظل كغيرها قابلة للنفي الرسمي والتحوير. فما يبدو للمغرضين إغلاقاً للمصانع وإفلاساً للشركات، إنما هو جذب للاستثمارات وخير وفير إن شاء الله. وما يقال عنه تراجع للسياحة بنسبة 35 في المئة، إنما هو انتعاش لها وزيادة في عوائدها بعون الله، وما يثيره بعضهم عن بطالة وتسريح إنما هو فرص عمل مطروحة وتبحث عمن يشغلها بفضل الله. أما إذا أصر أحدهم ولم يبرح مكانه إلا بالإثبات مما لا يدع مجالاً للشك أن الاقتصاد في محنة والناس في أزمة، فإن الرد «الإخواني» يأتي سريعاً: «البلطجة السياسية سبب الأزمة الاقتصادية». الأزمة الاقتصادية التي تضرب جيوب الجميع عبرت عنها بائعة الجرجير من موقعها الرسمي على ناصية الشارع بتأكيدها أن الرئيس «إما لا يعلم أو أن المحيطين به لا يريدونه أن يعلم، وها هو الدليل»، وأخرجت حافظة نقودها القماش وقلبت محتوياتها ، فرن جنيهان معدنيان على الأرض: «حصيلة اليوم يا مرسي». لكن حصيلة الجانب الاقتصادي في خطاب الرئيس تفجرت في كل مكان. تعليقات في باصات النقل العام، وحوارات في ميكروباصات النقل الخاص، وتنديدات في طوابير العيش وجميعها يصب في سؤال واحد: «هل كان الريس يتحدث عن مصر؟». وكالعادة تتفجر ينابيع الحياة. يقول أحدهم: «شعرت إننا سنسلف كندا بعد الخطاب»، فيرد آخر بأن «الرئيس كان يتحدث عن اقتصاد السويد» فيصحح له زميله: «لا هذا اقتصاد الجماعة». ضحكات مكتومة تكشف عن مرارات مفقوعة وجيوب خاوية وعقول متقدة، وهي العقول التي تبدع وتتقد تحت وطأة الخطاب. تغريدات «تويتر» تعتبر «فشة خلق» لكثيرين، فهذا طبيب يؤكد أن «مصر لن تركع بالفعل كما أكد الرئيس ولكن السبب ليس تعافي الاقتصاد لكن تيبس المفاصل»، وآخر ينوه إلى أنه «لم يتبق إلا أن يعلنوا أن الاقتصاد تضخم في عهد مرسي. تكبييير». وثالث يرجح أن يكون «الشخص الذي يزود الرئاسة بالمعلومات الاقتصادية دجالاً أو صرافاً في الجماعة». ولا يخلو الأمر من نصيحة من الكاتب بلال فضل: «كل مواطن يقف أمام المرآة ويقول الاقتصاد حديد ومرسي تمام وقنديل جامد». وأخرى ترفع من معنويات المعارضين بأن «أسوأ ما حدث للمصريين ليس وصول الإخوان إلى الحكم ولكن الخطب التي تنهال على المصريين بعد وصول الإخوان إلى الحكم». المؤكد أن طمأنة المصريين ليست حكراً على الرئيس، ولكن الجهود الشعبية تسهم هي الأخرى في نشر السلام وتعميم الاطمئنان. «الاحتياطي النقدي وفير والسياحة زادت وإيرادات القناة تغرقنا والرغيف كبير والشوارع خالية، هذه أشياء لا يراها سوى المؤمن الذي قال نعم للدستور». ووصل الأمر إلى حد المطالبة بأنه «بعد هذا الحديث الجامد عن الاقتصاد الجامد، علينا أن نقرض الدول ذات الاقتصاد الضعيف، لأنه لا يصح أن نعيش في هذا النعيم وحدنا»، فيرد عليه أحدهم مرجحاً: «على الأغلب سنعيش فيه وحدنا».