قبل أعوام خمسة من نكسة حزيران، الحدث الذي هزّ عميقاً الوجدان الشعري العربي، نشر الشاعر علي الجندي ديوانه الأول «الراية المنكّسة»، مستشرفاً، باللغة، أبعاد الكارثة الوشيكة، فكرياً وسياسياً ومعرفياً، وواضعاً اللبنة الأولى في معمار فلسفته الشعرية التشاؤمية، التي صقلتها قراءاته الواسعة في الأدبين العربي والغربي، وبخاصة تأثّره بوجودية سارتر وكامو، واستبطانه بلاغة بدر شاكر السيّاب القاتمة، واصطدامه، جمالياً وفنياً، برؤيا الفراغ التي عبر عنها مجايله الشاعر أدونيس في قصيدته الشهيرة «الفراغ»، (1954)، وبخاصة توظيفه لسلسلة من الرموز والاستعارات الإليويتة المتسلّلة من قصيدة «الأرض الخراب» في رثائه انهيار الحضارة الحديثة، ونعيه المفهوم الميتافيزيقي المثالي للعالم الذي أصابه موات روحي بطيء: «حطامُ الفراغ على جبهتي/ يمدّ المدى ويهيل الترابا/ ويخلج من جانحي ظلاما،/ وييبسُ في ناظري سرابا». لكن الجندي، المتخرّج في قسم الفلسفة في جامعة دمشق عام 1958، والمتشبّع بأفكار كانط عن العقل الصافي، وديالكتية هيغل المثالية، وعدمية نيتشه الراديكالية، أراد أن يطور مفهوماً جديداً للفراغ أو السراب، عبر تخليصه من شوائبه الأيديولوجية، متبنياً النظرة السارترية في تشريح العبث، والقول إن الكينونة هي شكل من أشكال الغثيان. هنا، لم يعد الخواء حالة كونية كما عبر إليوت وأدونيس، بل برز في شعر الجندي بصفته بلوى ذاتية تهدّد الأنا الفردية في الصميم: «صارت الدنيا ظلاماً/ صار جسمي فحمةً مشتعلة/ زحفت نحوي الوحوشُ الجائعة/ واستضاءت بي عيونُ القَتَلة.» ومن يتتبع دوواين الجندي الأحد عشر، التي اختتمها في مطلع التسعينات بديوان «سنونوة للضياء الأخير»، يجد هيمنة شبه مطلقة، لتلك الفلسفة العبثية، التي سادت أوساط المثقفين العرب في فترة الستينات، والتي ترى الحقيقة المطلقة ركاماً من الاستعارات المتمّجدة، على تعبير نيتشه، وترى الكائن هشيماً من الرغبات والأحلام المكبوتة، كما رأى فرويد، وترى الخلاص الروحي مهمة مستحيلة، كما رأى إليوت وجويس وصموئيل بيكيت. فالشاعر، بحسب علي الجندي، يجد نفسه وحيداً في العالم، منفياً في صقيع الكون الذي تخلى عنه البارئ، وتركه يغرق في ديجور الخطيئة، كما يقول الجندي نفسه في إحدى قصائده المبكّرة: «وإذا الدوربُ طويلة محمومة، محفوفة بتهتك الديجور/ تفضي به إلى اللاشيء/ تغري به في خسة وحبور». هذه الدورب التي لا تقود إلاّ إلى «اللاشيء»، مهدت الطريق أمام ظهور ثيمة الموت، التي باتت مركزية في معظم دواوينه اللاحقة، حيث نجده يخترع الغياب، ويتأمله بكل أشكاله ومعانيه وتجلّياته. يرى الشاعر ذاته في مرآة اللغة، متلاشية، ضيئلة، كطلل تذروه الرياح، وتمحو أبجديته أزاميل الغياب: «صار جسدي مقبرة، فهنا شاهدة ممسوحة». في ديوانه «الشمس وأصابع الموتى» (1972)، وكما يشير العنوان، نجد تتويجاً لتلك النظرة العبثية للحياة، واحتفالاً طقسياً بالموت، يصل درجة الانبهار به: «أموتُ على شربة ماء صافية/ أتراني سأقضي وحدي ظمآن،/ آه، الصحو الصحو، الفجر، البرية،/ آه، عشباً، صيفاً/ يا ربّ الأوتار أغثني/ أكسر عاصفة الشوكِ، وسرّح في الجو ضبابَ الألحان.» وتجدر الإشارة أن هذه النظرة التشاؤمية للعالم، لم تكن وقفاً على علي الجندي وحده، ويبدو أن مناخ الستينات، قبل نكسة حزيران وبعدها، والذي مهّد لسلسلة من انهيارات متتالية، سياسية وفكرية واجتماعية، فاقم من تلك النظرة الداكنة الى العالم، وهذا ما عبر عنه الكتاب السوريون بمختلف حساسيتهم وانتماءاتهم الأدبية، بحيث نجد صدى له في روايات هاني الراهب الأولى. مثل «المهزومون»، ومسرحيات سعد الله ونوس، مثل «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران» وقصائد أدونيس، وبخاصة عمله الشعري الملحمي «أغاني مهيار الدمشقي». لكن التحدي الأكبر لكآبة علي الجندي جاء من قصيدة محمد الماغوط، معاصره الفذّ وابن قريته، السلمية، فأراد الجندي الافتراق والتميز عن حساسية ذاك الشاعر «الرامبوي»، الذي يسهل الوقوع في عدوى أسلوبه، السهل الممتنع، من فرط جاذبيته وأصالته، وأراد أن يضفي عليه طابعاً فلسفياً وجودياً، ما جعل قصيدته أكثر ميلاً للتجريد، وأكثر انشغالاً بالأنساق المعرفية والأسطورية والرمزية للرؤيا، يشاطره في ذلك بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس. وخلافاً لهؤلاء، اختار الماغوط التلقائية التعبيرية، وفضّل الابتعاد عن التجريد الذهني والمعرفي، متمسّكاً ببساطة آسرة تصعب محاكاتها، وإن كان الجندي يتقاطع معها في شعوره الطهراني المتعالي بفقدان الكون البراءة، واعتباره الأنا ضحيةً للكون القاسي، المريض، كما يعبر في إحدى قصائده قائلاً: «فأنا القنديل المتروك وحيداً عند حدود الصحراء/ وأنا الصبّارة رافعةً أيديها للريح وموسيقى الأنواء». وعلى رغم ثقافته الشعرية المتينة، وريادته الفكرية كأحد مؤسسي «اتحاد الكتاب العرب» عام 1969، وتنقله في مناصب متعددة، في وزارة الثقافة السورية، وانخراطه في الكتابة الصحافية والإذاعية، ظل الجندي شاعراً عصياً على التدجين، وراح يميل بكل جوارحه إلى الهامش، المنبوذ والبربري، ويعيش حياةً أقرب إلى الصعلكة والتمرّد. ومع أنه وجد في مجلة «شعر» اللبنانية، التي كان يصدرها يوسف الخال في بيروت خلال حقبة الستينات، فرصة للخروج إلى الأفق العربي الأرحب، عبر نشره العديد من قصائده على صفحاتها، وبخاصة ديوانه الثاني «في البدء كان الصمت» (1964)، إلا أن لغته نأت بنفسها عن التجريب الحداثوي الذي طبع مشروع تلك المجلة وخطابها، وبخاصة أدونيس وأنسي الحاج، وظلّت بلاغة الجندي سيابية في مجازها، رومانطيقية في نبرتها، وقد عبر الجندي في حوار أجري معه عام 2000 عن اختلافه عن جماعة مجلة «شعر» بالقول: «كان الجميع أصدقائي، ولكني لم أكن أشعر أني واحد منهم، فقد كانوا، على رغم ظهورهم بمظهر الديموقراطيين، يمارسون سيطرة وتشنّجاً تجاه شعرهم وأفكارهم». لا شك في أن علي الجندي ترك بصمته على الشعر السوري الحديث، وإن بدرجة أقل من أدونيس والماغوط وقباني، إذ انحصر تأثيره في تكريس مفهوم قصيدة الرؤيا، القائمة على تأمل فلسفي عميق، والتي طورها وصقلها لاحقاً شعراء جيل السبعينات، مثل سليم بركات ومحمد عمران ونزيه أبو عفش، كل على طريقته. ولم يترك الجندي الأثر العميق الذي تركه الماغوط في شعراء ما يسمى تيار القصيدة الشفوية، (رياض صالح الحسين، منذر المصري، نوري الجراح، بندر عبد الحميد، عادل محمود، محمد عضيمة، وسواهم) الذين يؤمنون بوهم المطابقة بين الحياة والنص، والابتعاد عن الهموم الكلّية المطلقة. عبر التركيز على اليومي والنسبي والمهمل، حيث نلحظ تراجعاً لدى هؤلاء في الاهتمام بجماليات اللغة، وتفضيلهم التركيز على النسيج العام للنص، والحبكة السردية المتقنة، وهي خصائص تبتعد عن النبرة الميتافيزيقية العالية لقصيدة علي الجندي، وخطابيتها الفلسفية، المتمحورة حول الذات وعذاباتها. قد تكون حياة الجندي أقوى من نصه، وأكثر غنىً وجاذبيةً، هو المحاور الظريف، والمتحدث البارع، والسارد المبهر، لكن تبقى لقصيدته نكهة خاصة، تتمثّل بالتمرد المعرفي، وحتى الفلسفي، الذي كاد يفتقد إليه الشعر العربي الحديث. ويكفي أن خطابه الشعري ظل متماسكاً، على مدى خمسين عاماً، ممهوراً بذاك الإدراك الوجودي النادر بأن الحياة ممر عبور إلى ماوراء، غامض، مجهول، ما جعله يرى في الموت فراراً من جحيم الذات، وانعتاقاً من تناقضات الأعماق المستعرة، كما يعبر في ديوانه «سنونوة للضياء الأخير» (1990): «أنت لا تهربُ من ماضٍ،/ ولا من مُقبلٍ أسود/ بل تهربُ من أعماقِكَ المشتعلة».