في حرب غزة الأخيرة، تصادمتْ الهوية الفلسطينية مع إشكالية أخلاقية. إشكالية تتعلق بالعنف. تَبَدّتْ في كتاباتٍ تُحَرِّض من وراء شاشات اللابتوب. لم تُحمَل بين دفتي منهج سياسي كأيام العنف الثوري في السبعينات. ومقابل الوحشية الإسرائيلية ووقاحة الكيان الصهيوني الدائمة، دعا مثقفون فلسطينيون، شعراء وباحثون وأكاديميون، إلى قتل أطفال العدو ونسائهم وسخروا من معوقيهم الصم والبكم الذين لم يسمعوا صافرات الإنذار أو لم يكن في إمكانهم المشي إلى الملاجئ. العنف هنا، أُريدَ له في أحسن الأحوال، استيلاد أبعاد بسيكولوجية لدى الإسرائيلي كالارتباك والخوف، وأخرى اجتماعية كالضغط باتجاه وقف العدوان على الفلسطينيين. لكنه انطوى كذلك على إعلانٍ لا أخلاقي تمثّل بضرورة إبادة المدني الآخر. وكأن في تحقيق هذه الإبادة إعلاءً معنوياً للهوية الفلسطينية. قد يكون العنف المستدرج في خطاب المثقف الفلسطيني في هذه الحال، مجرد ارتداد بسيط عن عنف جمعي يشكّل اليوم انسجام العالم ووحدته، عنف يُنفِّذه أفراد «اجتماعيون» على مستوى اليوم، سياسياً وثقافياً وإعلامياً ورقمياً. غير أن انبثاق الخطاب العنفي الفلسطيني فجأة كرد فعل كسول وانفعالي، أشار كذلك إلى مأزق راهن يضرب الهوية الفلسطينية. ويتمثل بغياب المساءلة النقدية تاريخياً وأيديولوجياً وسياسياً لشروط هذه الهوية، وغياب المجهود الفكري المؤثر في تثبيت الضرورات الجديدة لها وتحديد ملامح خطابها اللازم اليوم وتفكيك أكسسواراتها القديمة ما أمكن. على مدى عقود، أُديرَتْ الهوية الفلسطينية بصورة قسرية صوب: «استرجاع الأرض». جسّدَ هذا المبدأ ركيزةَ الانتماء الفلسطيني، وإطاراً تتحقق في داخله كينونة القومية الفلسطينية ويُستعاد الإرث الجغرافي والثقافي المسروق. وساهم تسارع أحداث الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي منذ أواخر الستينات، بحلته الدراماتيكية المأسوية، إلى تمسّك الفلسطينيين كجماعةٍ بقيم أيديولوجية ودينية سماوية ومفاهيم أرضية وعاديات من قبيل فناء الفرد وواجب النضال ونكران الذات. وتشكلت بذلك ملامح (ظرفية - موقتة) للهوية الفلسطينية ربطتْ هذه الهوية قسراً بواجب سياسي وحتمتْ عليها الانخراط فيه. بذلك، فإن كل المحاولات لإتمام الجزء الاجتماعي أو الدنيوي لهذه الهوية، دُفِعتْ إلى زمن مستقبلي غير معلوم. فيما لم يصبح «استرجاع الأرض» بنية نضالية ورمزية إنسانية فقط، بل احتل كامل أجزاء هذه الهوية. وسرعان ما تحوّل ضرورة جمعية (كي لا نقول قومية) لا تتحقق الذات الفردية (وبالتالي الذات النقدية) إلا من بعدها. وبذلك، فإن المكونات المتعلقة بالفرد، والمساحات المعطاة له، بما في ذلك المساحة النقدية، تقلصت إلى حد مخيف، وتأجّلَ مفهوم الفرد بطبيعة الحال وتأجل بذلك تحقيق جزء عاجل من الهوية الفلسطينية. في المحصلة، فإن الاستثمار السياسي لمفهوم «استرجاع الأرض»، وبسبب عالم منحاز لإسرائيل، أقفل أفق الفردية الفلسطينية، وطالبها بتجاهل كينونتها. وفي كل الأحوال، فإن الخطاب العنفي لمثقفين فلسطينيين يمثل تراجعاً في الصورة الفلسطينية، ويدل بإصبع معكوسة إلى هذه الذات الفردية المغيّبة، التي تتوازن مع العدو، بالدعوة إلى إفنائه وتغييبه.