تابعت القنوات الفضائية ووكالات الأنباء في هذه الأيام أولاً بأول مجريات استفتاء شعبي لأول دستور تصنعه مصر بعد ثورة 25 يناير وتطوراته ونتائجه، في ظل أجواء يشوبها الكثير من حالات الاستقطاب بين التيارات السياسية، وهذا ما يعيدنا إلى فكرة وتأريخ الاستفتاء الشعبي وأهميته ودوره الكبير في إدارة الحكم من الشعوب في النظم الديموقراطية. الاستفتاء الشعبي يقصد به عرض موضوع محدد على الشعب لأخذ رأيه، وليقول كلمته بالموافقة أو الرفض. ولا يعتبر موضوع الاستفتاء ملزماً أو واجب النفاذ إلا بعد حصوله على موافقة أغلبية الأصوات. ويعد الاستفتاء الشعبي أهم الطرق في مشاركة الشعب ومساهمته المباشرة في إدارة الحكم، إضافة إلى صور أخرى للمشاركة، مرجعها ومردها إلى الاستفتاء الشعبي، ومن أبرز تلك الصور الاقتراح الشعبي، وهو حق المواطنين في تقديم مشاريع القوانين التي يريدونها، إما عبر تقديم المقترح مصاغاً في صورة مشروع قانون متكامل، أو في صورة مجرد خطوط عريضة للقواعد أو التعديلات التشريعية المطلوبة، ومن ثم عرضها على البرلمان لإقرارها أو الاستفتاء عليها، وفي أحوال أخرى تسمح بعض الدساتير بالاستفتاء عليها بصورة مباشرة، بحيث إذا وافق عليه الشعب أصبح قانوناً من صنع المواطنين أنفسهم، وذلك كما هو معمول به على سبيل المثال في سويسرا، فهناك يمكن المواطنين المشاركة في صياغة أحكام الدستور وسَنّ القوانين إلى جانب البرلمان، وتنظيم استفتاء شعبي حول تعديل فصل من الدستور، أو إضافة فصل جديد، أو إجراء مراجعة شاملة له، إذا وجّه إليها طلباً بهذا الشأن لا يقل عن 100 ألف شخص، وذلك بعد عدد من الخطوات الإجرائية. وتبرز أهمية الاقتراح الشعبي كوسيلة مباشرة في إظهار رغبات الشعب التشريعية، بل إن بعض الفقهاء الدستوريين يرون أن مساهمة المواطنين في التشريع لا تكون كاملة إلا إذا تمتع الشعب بحق اقتراح القوانين وإعدادها وصياغتها. ومن صور المشاركة الأخرى، حق الاعتراض الشعبي في رفض قانون أقره البرلمان أو عدم الرضا عنه، وذلك بتقديم عريضة موقعة من عدد معين وفي مدة محددة، يظل خلالها القانون غير نافذ التطبيق، حتى يتم الاستفتاء عليه شعبياً. ومن الدساتير الحديثة التي تعمل بحق الاعتراض الشعبي الدستور الألماني، الذي يجيز حق الاعتراض الشعبي على القوانين، وكذلك الدستور الإيطالي، الذي يمكن فيه إلغاء القانون الذي أقره البرلمان كلياً أو جزئياً إذا اعترض نصف مليون ناخب أو خمسة مجالس محلية على الأقل، ليطرح بعدها للاستفتاء الشعبي. وينقسم الاستفتاء الشعبي من حيث موضوع التصويت إلى أنواع عدة، من أبرزها الاستفتاء الدستوري، المتمثل في عرض مشروع الدستور أو التعديل للتصويت عليه بالموافقة أو الرفض من الشعب. وكانت بداية ظهور فكرة الاستفتاء التأسيسي مع بداية حركة تدوين الدساتير في بعض الولايات الأميركية عام 1776، وتأكد ظهور الاستفتاء التأسيسي للدستور كوسيلة من وسائل الديموقراطية المباشرة بصورة واضحة في إعلان الجمعية التأسيسية الفرنسية عام 1792، والتي قررت أنه لا يمكن أن يوجد دستور إلا ذلك الذي يقبله الشعب، ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى (1918) والاستفتاء الشعبي على الدستور آخذ في الانتشار في بلاد العالم المتقدم، إذ قامت عليه معظم الدساتير الحديثة. وتتم صياغة مشروع الدستور المستفتى عليه بإحدى طريقتين: إما عن طريق الجمعية التأسيسية، أو عبر اللجنة الحكومية، ففي الطريقة الأولى تقوم جمعية تأسيسية منتخبة بوضع الدستور، وتتمثل مهمتها في وضع مشروع الدستور لعرضه للاستفتاء على الشعب. ومن الدساتير التي تم وضعها بهذه الطريقة دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1946، إذ تم انتخاب جمعية تأسيسية لمدة سبعة أشهر للقيام بإعداد الدستور، بحيث إذا لم تنته الجمعية من إعداده في غضون تلك المدة المحددة أو تم رفضه شعبياً، يتم انتخاب جمعية أخرى، وهكذا حصل، وقامت تلك الجمعية في غضون ستة أشهر بإنجاز مشروع الدستور وعرضه على الاستفتاء، فرفضه الناخبون بأغلبية يسيرة، فتم انتخاب جمعية ثانية قامت بإعداد مشروع دستور آخر تم التصويت عليه بالموافقة. أما الطريقة الأخرى، فتتولى وضع الدستور فيها الحكومة عبر لجنة يتم تشكيلها حكومياً لهذا الغرض، وهذه الوسيلة لا تسمح للشعب عن طريق ممثليه بالمشاركة في إعداده، وإنما يقتصر دورهم على مجرد الموافقة عليه أو الرفض، ووضعت كل الدساتير المصرية التي عرضت على الاستفتاء الشعبي، ابتداء من دستور 1956 إلى دستور 1971، عن طريق لجان حكومية، وتم من خلال هذه الطريقة وضع دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958، وذلك حينما وقعت أزمة داخلية حادة مطلع ذلك العام كانت مؤذنة بحرب أهلية، فكان أن استقالت الحكومة، ودعا رئيس الجمهورية الجنرال ديغول إلى تشكيل حكومة جديدة لمعالجة الأوضاع الداخلية وإصلاح نظام الحكم، وقام البرلمان حينها بتفويض الحكومة اتخاذ كل الإجراءات التشريعية لإصلاح نظام الحكم، ومنها الدستور، وبذلك تحوّل الاختصاص التشريعي من البرلمان إلى الحكومة، ولكن تم تشكيل لجنة استشارية ثلثاها من أعضاء البرلمان للنظر في الدستور، من أجل الموافقة عليه وطرحه للاستفتاء الشعبي، وتم تقييدها بمبادئ وضوابط محددة، ونال ذلك الدستور موافقة 79 في المئة عند الاستفتاء عليه. وهكذا... تظل آلية الاستفتاء من أهم الوسائل الشعبية في إدارة الحكم. * كاتب سعودي