علي معادلة يصعب فهمها، يبدو في طروحاته مفكراً جاداً وملتزماً، وفي علاقاته النسائية يتحول لمراهق سريع الملل، مندفع ومغامر، جربت مرة أن أغويه أنا ومنى! كنت أعلم أنه في كل خميس يذهب لشقته بعد صلاة العشاء مباشرة، وكان تحت العمارة مجموعة محلات تجارية ومقهى صغير، وقفنا نتمشى أمام المحال التجارية وحين ركن سيارته ، ألقى نظرة علينا، رآنا فتاتين من شغب، اقترب منا وألقى التحية بصوت هامس: - يا مساء الهنا... مشينا بعيداً عن العمارة، متجهتين إلى داخل الحي، تبعنا هو وصاحبه، علي يلاحقنا بالكلمات الناعمة وصاحبه صامت، وأنا لم أفتح فمي، خشيت أن يتعرف على صوتي، وتكفلت منى بالمهمة، كانت تشاغبه بكلام ساخر، وكان يحلو له أن يرد عليها بدهاء ثعلب، تضحك وهي تراني منزوية بعباءتي خوفاً من أن يتعرف علي وهو يوجه خطابه لي ويقول: - الحلو مالو ما يكلمنا؟ وترد قائلة: - أرجوك مالك دعوى بذي! خلك معي. يبتسم ويقول: - ومالو! أنا اسمي محمد وهذا رقمي. ترد عليه منى وهي تلتقط الرقم وتشير لصاحبه: - وصاحبك المملوح ذا وش اسمه؟ يلتفت لرفيقه الذي يبتسم مبتهجاً ويقول: - هذا ما عليك منه خليك معي ينفرط عقد تماسكي وأضحك وأنا أرى منى تقول: -صاحبك عاجبني أكثر منك، خليه يحاكيني أول يلتفت لرفيقه ويقول: - كل ساقط له لاقط! بالله هذا وش ينبغى به؟ خليك معي أنا حلّال العقد، صاحبي لبخة وعلى نياته. يضحك رفيقه ويقول: - أنا محمد وهذا رقمي ويمد يده بالرقم. التقطه أنا لأني الأقرب. وتعلق منى: - كلكم محمد... يعني أنتو محمدين؟! يضحك علي بقوة ويقول: -يخرب بيتك! هو محمد وأنا أحمد حلو كذا. كنا قد وصلنا لعمارة كبيرة، دخلنا فيها وتبعنا علي، التفت إليه منى وقالت: -خلاص عاد، رقمك عندنا أنت وذا المملوح اللي معك، الليلة بنسمر معكم، احترونا يمد يده ليمسك بيد منى التي قالت، وهي تسحب يدها منه وتضحك: -يخرب بيتك صدق، وش تبي؟ تونا بفقرة ألف وتمد يدك! أجل بفقرة هاء وش بتسوي؟ يضحك علي ويتراجع وهو يقول: الوعد الليلة، بحتريك! هذا هو علي الذي أحببت... مثقف جاد وعاشق مجنون، ورجل بقلب طفل صغير... وقفت أمام مرآته ،عدلت مكياجي، وضعت من عطر (كارتير) كنت قد استعرته مجدداً من تسريحة خالتي، ولوهلة عبرت أمامي صورة جدتي لطيفة، كانت تنهرنا عندما نضع عطراً قبل خروجنا من البيت، كانت تقول (ستركبين الآن مع السائق، وستمرين برجال آخرين، وسيشم رائحة عطرك. كل من تمرين أمامه وتعلمين أنك بذلك كالزانية)؟ ولم تكن تهدأ إلا بعد أن أغير الملابس التي تحمل رائحة العطر، لذلك كان من طقوس جدتي الصارمة، أن يستقبل البخور الشرقي الزائرات في أول الزيارة لا في آخرها كما جرت العادة، وذلك حتى تضمن جدتي ألا تخرج إحداهن ورائحة البخور لا تزال عالقة بها، سمعت صوت عائشة العميق، وضحكتها اللئيمة تنطلق من الصالة، تنفست بعمق، وأنا أطرد طيف جدتي لطيفة و أدخل الصالة، نظرت عائشة إلي باستعلاء كعادتها وقالت موجهة حديثها ل علي: - من هذه الفتاة اللطيفة ؟ ثم ضحكت وهي تقول: - أخبروني أنك غيرت نوع سجائرك، الآن عرفت السبب... قال: - غريبة... ألم تلتقي بمريم من قبل؟!مستحيل!! مريم أخبرتني أنك تعرفينها جيدا، أليس كذلك؟! ورفع بصره إليّ مستفهما... جلست بجوار علي وقلت: -عائشة !! معقولة ما عرفتيني؟ يمكن عشان طولت شعري... ابتسمت بخبث وقالت: - لم أتوقع أنها أنت! أنت خجولة جداً ولم أتوقع وجودك هنا في بيت علي.... ثم التفتت إلى علي قائلة : -صراحة علي، مريم... ليست من نوعك! ثم ضحكت وهي تغمز له وقهقه معها...غير آبه بي! هكذا تبدو عائشة بنسختها (الهايدية) المليئة بخبث النوايا، بينما تظهر بنسخة دكتور جيكل وهي تتحدث عن قيم الإنسانية الجميلة، والأهداف النبيلة التي تسعى لها لتحقيق عدالة جزئية في هذا الكون! العدالة في نظرها أن تبقى هي على رأس القائمة دائماً! تهمش وجودك، وهي تعرفك تماماً لتقول للآخرين أنك لست شيئاً يذكر! نلتقي كل شهر تقريباً... فكيف تنساني؟! أرادت أن تقول لي (ما الذي جاء بك هنا؟) بطريقتها الخاصة! تصرفها اللئيم جعلني مستعدة لإغاظتها بأي طريقة! وما الذي يمكن أن يغيظ امرأة إلا الإشارة إلى عمرها مقارنة بعمر فراشة صغيرة مثلي! قلت باستخفاف متعمد: -ما ألومك عائشة... السن برضو له أحكام! برقت عيني علي بابتسامة ساخرة، ورمقتني عائشة بنظرة حادة، متجاهلة كلامي، وقالت موجهة خطابها ل علي: -مو كأن الجماعة تأخروا؟ رد علي: -ناصر في الطريق، سيمر على كريم في الفندق ويحضره... كنت كقطة مذعورة من ضجيج الاختلاط في تلك الصالة الضيقة، روائح الدخان المجتمعة تذكرني بالتآمر، أصوات الكؤوس وهي ترتفع وتهبط تشعرني بالعزلة أكثر! لو أن جدتي لطيفة تراني الآن! لو أنها تعلم كيف أقضي وقتي؟ كان طيفها لا يزال يحاصرني ونفسي اللوامة لا تزال تعمل، كان وجودي هنا وسط جمع مختلط من الرجال والنساء، أمراً غريباً بالنسبة لي! كيف لي أن أجلس هكذا بدون عباءة في جمع من الرجال، كنت أشعر أن جسدي سيكون عارياً بمجرد نزع عباءتي عنه! أحسست أني عارية ومكشوفة والكل ينظر لي! لكن صدامي المبدئي مع عائشة جعلني أنسى ذلك الهاجس بالعري، أردت أن أثبت ل علي أنني قادرة على الاندماج مع طقسه الخاص بثقة وعنفوان شابة في العشرين... سعيد كان موجوداً وبجواره شاب وسيم يحمل عوداً في يده، عرفت أن اسمه فهد، فنان مثقف يكتب قصائد غنائية، ويحلم أن يكون مطرباً مختلفاً، ومحرر أدبي شاب في صحيفة معروفة، والمحتفى به ناصر، وهو شاعر يكتب قصيدة نثر، كان فهد (يدوزن) عوده ويترنم بألحان جميلة... كانت المرة الأولى التي أرى فيها سعيداً وجهاً لوجه، من حديث ندى عنه، توقعته أكثر وسامة! كان طويلاً، نحيلاً... بملامح عادية جداً... لا يمكن أن يلفت انتباه أي امرأة! فكيف تصوره ندى بزير النساء! كنت أتأمله، وأنا أفكر بندى عندما التفت إلي قائلاً: - أنت مريم... صح؟ أومأت برأسي، تابع - تشبهين نصوصك كثيراً.... قلت منبهرة: -كيف؟ قال وهو يبتسم ويخفض من صوته: - لنصوصك لمعة خاصة أراها في وجهك الآن، نصوصك جامحة وصادقة وفيها اندفاع... قلت: -وهل تراني الآن جامحة ومندفعة * مقطع من رواية سعودية صادرة حديثاً