يتوقع أن تشهد مرحلة ما بعد الأزمة العالمية تغيرات اقتصادية هيكلية محلياً وإقليمياً وعالمياً. واقتنعت الدول، منها الصين والهند ودول نامية أخرى، بأن لا بديل عن النظام الرأسمالي، غير أن اقتصاد السوق سيشهد عهداًً يتسم برقابة أكثر فعالية وتشريعات مالية صارمة وتشدداً في منح الائتمان. وباتت التشريعات والقوانين شرطاً أساسياً لأداء اقتصادي متوازن ولم تعد من المعوقات. وأصبح واضحاً أن القطاع العام يلعب دوراً متزايداً في الاقتصاد. وتوجد الآن عودة دراماتيكية للحكومات، وبات مطلوب منها أن تكون المراقب والضامن والمقرض والمالك لشركات تأثرت سلباً بالأزمة. ويكمن التحدي في كيفية إبقاء القطاع العام بعيداً من إدارة الشركات التي ازدادت ملكيته فيها، مع إعطائه دوراً أكبر في الإشراف والتنظيم والمراقبة، وبهذا تحافظ المنطقة الخليجية والعربية على منجزات الانفتاح وزيادة المنافسة وكفاءة التسعير والحد من الروتين والبيروقراطية والحوكمة الرشيدة للشركات ضمن غيرها من الإنجازات التي حققتها خلال العشرين عاماً الماضية. وستكون الرقابة الفعالة والقدرة على تجنب الأزمات قبل حدوثها من أهم ظواهر المرحلة المقبلة. فإضافة إلى السياسة النقدية والرقابة على المصارف، يتوقع أن تشهد المصارف المركزية توسعاً في مهماتها لتشرف على نشاطات الإقراض بغض النظر عمن يقوم به، سواء مصارف، شركات وساطة، صناديق استثمار، مؤسسات تمويل عقارية أو تمويل تأجيري وغيرها، وتنسق في هذا المجال مع هيئات أسواق رأس المال. الهدف تمكين المصارف المركزية من إدارة الأخطار النظامية، وحفظ الاستقرار المالي، نظراً الى كون معظم فقاعات أسعار الأصول، تنشاً بسبب المضاربة والطلب المكثف الناتج من زيادة حجم الائتمان المقدم لشراء هذه الأصول. فالإدارة السليمة للائتمان ووضع ضوابط واضحة ومنظمة له يساعد على تنفيس الفقاعات قبل أن تنفجر. ويتوقع أن يتعمق ارتباط دول المنطقة بالأسواق العالمية وتطوراتها في شكلٍ أكبر، إذ لوحظ مؤخراً كيف أن موجات الارتفاع أو الهبوط تبدأ في الأسواق المتقدمة وتنتقل تباعاً بين أميركا وأوروبا وآسيا وصولاً إلى المنطقة العربية. فالتحركات في أسعار الأسهم المحلية أصبحت تعكس في شكل متزايد حركة الأسواق الخارجية، وبلغت نسبة الترابط بين أداء أسواق أسهم دول المنطقة وسوق الأسهم الأميركية (500 P&S) نحو 89 في المئة خلال الأشهر السبعة الأولى من السنة الحالية. وأخذ المساهمون يتابعون أداء الأسهم العالمية كمؤشر قيادي لتحسن الأوضاع الاقتصادية وتأثيره الإيجابي على أسعار النفط، فيتعاملون مع أسواق أسهم دول المنطقة، متجاهلين في كثير من الحالات المعطيات الخاصة بأداء أسهم الشركات المدرجة محلياً. وأصبحت أسواق الأسهم والعقارات لدول المنطقة منفتحة في شكل كامل أو شبه كامل على تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، كما أن القطاع الخاص الخليجي والعربي له استثمارات في الخارج تقدر بنحو 1.5 تريليون دولار، فأي ارتفاع في ثروات القطاع الخاص كما حصل مؤخراً، ينعكس إيجاباً على ثقة هذا القطاع وعلى تقبله لأخطار الاستثمار في أسواق الأسهم المحلية، والعكس صحيح. كما أن الطلب العالمي يحدد أسعار صادرات دول المنطقة من نفط وغاز وبتروكيماويات وأحجامها، وهي صادرات لها تأثير كبير على معدلات النمو المحلية لأنها تشكل ما يزيد على 50 في المئة من الناتج المحلي، وينعكس تعافي الأوضاع الاقتصادية والمالية العالمية إيجاباً على أسعار النفط وأداء أسواق اسهم المنطقة ويزيد من ثقة القطاع الخاص ومعدلات الاستثمار والاستهلاك لديه. وكان لتراجع أسعار العقارات في المنطقة بين 20 و50 في المئة بحسب البلد والموقع، أثر سلبيٌ على الإقراض، فسجل النصف الأول من السنة ضعفاً في نمو الإقراض. فالأسهم والعقارات ضمانات تستند عليها المصارف لتقديم القروض، وقبل أن تتحسن قيمة هذه الضمانات لن تعود المصارف إلى الإقراض بالمستويات السابقة. ولن يتحول ضخ المصارف المركزية للسيولة بالضرورة إلى زيادة في الائتمان. وأظهرت الأزمة العالمية ايضاً مدى هشاشة الوضع المالي لشركات عائلية في دول المنطقة ومدى ارتفاع مديونيتها وطريقة اتخاذ القرار فيها. فاستخدمت شركات منها قروضاً قصيرة الأجل لتمويل أصول طويلة الأجل، فضلاً عن تراكم مخزونات كبيرة لديها من مواد خام انهارت أسعارها لاحقاً. فلا بد إذاً للمصارف المركزية ووزارات الصناعة والتجارة المشرفة على الشركات العائلية، من وضع معايير جديدة تنظم عملها بما فيه اتباع نظام الحوكمة الرشيدة ووجود مجلس إدارة يشمل أعضاء مستقلين من خارج العائلة، يناط بهم مهمات الإشراف على لجنة التدقيق الداخلي ولجنة إدارة المخاطرة. فظاهرة الإقراض بناءً على اسم العميل ووفقاً لضمان شخصي من المقترض انتهت. وستلجأ المصارف إلى مزيد من التقصي قبل الإقراض مع مطالبة العميل تأمين قدر أكبر من الشفافية والإفصاح. كما أظهرت الأزمة مدى أهمية سوق متطورة للسندات والصكوك وأوراق المال، تؤمن التمويل المطلوب للشركات عندما تعزف المصارف عن الإقراض. فخلال النصف الأول من السنة الحالية أصدرت في الاسواق العالمية سندات بنحو 1.6 تريليون دولار، مقارنة مع 720 بليوناً خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، في وقت تراجعت القروض المصرفية 50 في المئة. المرحلة المقبلة إذاً ستشهد تعميق أسواق السندات المحلية والإقليمية وإصدار مزيد من السندات الحكومية لتكون المؤشر لسندات تصدرها الشركات، وستضع القوانين التي تنظم التعامل في الأسواق الثانوية وقيام منصات لتداول هذه الأدوات، كما حدث مؤخراً في السعودية مع إعلان المملكة عن إنشاء سوق ثانوية لتداول السندات والأسهم. إضافةً إلى زيادة اهتمام المؤسسات الحكومية وهيئات الضمان الاجتماعي وشركات التأمين وشركات الاستثمار وغيرها في حفز طلب مؤسسي على السندات المصدرة. * الرئيس التنفيذي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «دويتشه بنك».