تتزايد الحاجة لاعتماد منهجية أصبح لا غنى عنها لتقييم الحقبة الراهنة التي يعيشها العراق، حيث تلح مهمة إعادة قراءة تاريخه الحديث برمته. يترافق ذلك مع إلحاح ضرورات تجاوز هذه اللحظة على المستوى النظري والتصوري، ولا يبدو أن هنالك من مدخل يؤسس لقواعد منهجية من هذا القبيل إذا لم ينطلق من خرق أسس ومنطلقات منظور الحداثة في التاريخ العراقي كما تبلور خلال القرن المنصرم. مثل هذا الخرق وحده يمكن أن يساعد في إزاحة ونقل مجريات الفترة الحالية 2003-2012 خارج نطاق «المرحلية»، أو مساعي إقرارها ك «مرحلة» عادية، بينما هي نهاية مرحلة، وهو الأمر اللازم لتجنيب العقل والذاتية العراقية الدوران العبثي داخلها، أي البقاء تحت وطأة حالة عقيمة على كافة المستويات. هذا في وقت تلح فيه ضرورة الانتقال لما بعدها واختتام حقبة تاريخية طويلة نسبياً، استغرقت كل تاريخ الحداثة السياسية في العراق المعاصر. يقتضي ذلك وضع اللحظة الحالية في نهاية الحقبة المذكورة أعلاه، باعتبارها النتيجة الكارثية الناجمة عن انهيار مشروع الحداثة العراقية على مستويي الدولة والتعبيرات السياسية العصرية. فالوضع الحالي هو حصيلة ومآل تجربة ومشروع الحداثة العراقية، وهو يتضمن هزيمة تتمثل في مجالين أساسيين هما الدولة والقوى الوطنية المعاصرة. فعلى مستوى دولة 1921-2003 انتهت هذه التجربة إلى سلطة علمانية استبدادية قمعية وشمولية قاهرة، بينما انتهت على مستوى القوى والأحزاب الوطنية وما نشأ منها بعد العشرينات، يسارية كانت أو قومية أو إسلامية، إلى تردي شعورها الوطني، وقبولها بالغزو الأجنبي، وموافقتها على مبدأ تدمير الدولة، وتهديم كل ما بني على مدى 82 عاماً في هذا المجال. هذه القوى كانت عاجزة أصلاً عن تغيير النظام الاستبدادي بقدراتها الذاتية، بينما أبدت من العدمية السياسية والأخلاقية ما يفصح بقوة عن قصورها وعجزها التاريخي، لدرجة تخرجها عن دائرة مواكبة الموجبات أو الضرورات التي يفترض أنها بررت وجودها بالأصل. فإذا طغت هذه القوى الآن، فإن هيمنتها تأتي ضمن واقع خرب مدمر، مثقل بسجل الكارثة التي أسهمت هي فيها، كما ساهم قبلها النظام الاستبدادي العلماني، سواء بعجزها السابق على الاحتلال، أو قُبيله. فالدولة الشمولية والقوى المعارضة معها، هما وجهان متلازمان لعملة واحدة، تبادلا الأدوار للوصول بالعراق، وتجربته الحديثة، إلى الكارثة والدمار، وإلى سحق المؤسسات والبنى التحتية التي هي جهود العراقيين وعرقهم وثرواتهم، التي وضعوها في بلدهم على مدى قرن. وإذ تعيش البلاد الآن حالة من الفوضى والارتباك والمرض، وانعدام الأمن وأبسط مقومات العيش الحديثة والخدمات، بجانب استشراء الآثار القاتلة والمرعبة للحروب، ومئات الآلاف من القتلى والأيتام والأرامل، وفقدان الوحدة الوطنية واستشراء الطائفية، وشيوع اقتصاد الاستهلاك الريعي المطلق وأخلاقياته، وما يتصل به من فساد وشلل في أجهزة الحكم، فلا بد أن نتذكر أن آلاف المليارات من الدولارات، وهي ثمن عمل وكدح وجهود أبناء العراق خلال القرن الماضي، قد أهدرت وذهبت هباء، وأن مجمل بنية الحداثة السياسية هي المسؤولة عن ذلك. والأهم من كل هذا حالة الشلل التام، وفقدان أسباب عودة الدينامية الوطنية للحياة وللفعل، مع كاريكاتيرية شعار وممارسة «الطائفوقراطية» المدعوة «ديموقراطية»، وكل هذا يتقدمه ويعلو عليه فداحة انغلاق الأفق، وتدني الرؤية وا مساحة التطلع باتجاه المستقبل، فالقوى التي تتعايش الآن وتحكم مثل ركام ميت متخلف من فترات الفشل والمأساة، تدور ضمن الحلقة المغلقة لماضيها الخرب المعتم والعقيم، بينما لا تزال إرادة المستقبل لم تعط إشارات تنم عما يدل على بدء انطلاقة جديدة على صعيد الوعي بالذاتية الوطنية، أو ما يفيد التطلع نحو أفق جديد. قد تستحضر اليوم عند النظر إلى ما قبل الحاضر التعس، قواعد أولية مؤسسة، على سبيل إعادة قراءة السردية الحديثة في ضوء عللها ونتائجها وحصيلتها المعاشة، وهو ما يمكن إجماله في: 1- احتواء الرؤية الحداثية العراقية على تناقض صارخ، نشأ من غلبة حاضروية حادة، ويقينية تقطع الصلة بأي تاريخ حداثي محلي، فالعراق الحديث يظهر عام 1920 ليصبح فجأة دولة وبلداً منبثقاً من عدم، بينما حورت الممارسات والأفكار، فأخذت بطابع آني وعصري، مع أن العراق عرف قبل القرن العشرين تاريخ حداثة محلية، عاشت قبل الدولة الحديثة مستندة للقوانين الخاصة والديناميات الحضارية التقليدية. فمنذ القرن السابع عشر، بدأت عملية تشكل وطني لمجتمع جديد راح ينمو من الأسفل بعد قرون من الانقطاع التاريخي، امتدت من 1258، سنة سقوط بغداد على يد هولاكو، وبدء انهيار البناء الحضاري الذي قام وقتها بتحفيز من الفتح الإسلامي، إلى القرن السابع عشر، عندها وصل عدد السكان بفعل الفوضى والأوبئة والفيضانات والاحتراب، لما يقرب المليون نسمة، بعدما كان يقارب بحسب تقديرات متواترة 31 مليوناً، وقتها وفي غضون القرن السابع عشر، لم يتوقف الانهيار لكن بدأت عملية نمو سكاني وتبلور لتشكيلات اجتماعية جديدة، أولها الاتحادات القبلية. 2- حالة الإنكار الحداثية هذه أورثت الحياة تناقضاً وازدواجية في السلوك، كما في الأفكار، وإذا كانت المعتقدات قد اصطنعت بيتاً مستعاراً وعاشت فيه، فان الممارسات كلها ظلت مسندة إلى استحالة نفي القائم واقعياً وتاريخياً، فكان ما قبل الدولة وآلياته يفعل فعله عملياً، مشكلاً الركيزة والخلفية الفعلية لفعل الفاعلين، وإن لم يعترفوا بوجوده، بينما الفكر يترجم تلك الأفعال ترجمة تلغي الفاعل الأصلي كلياً. 3- لم تبق حداثة ما قبل الدولة وحدها منفية، بل معها الخاصيات التاريخية ومميزات الهوية، والثوابت المحددة للبناء الحضاري والوطني في بلد عريق عرف حضارات زاهية ومعدودة وتأسيسية، مما ترك في سجل المهمات غير المعالجة قضية نظرية من النوع الإشكالي وحتى الاستثنائي، صلتها وثيقة بالعصر الحالي، وما يفرضه ويبقيه من ثوابت أو متغيرات في الهوية، وكل هذا يعني أن عملاً ضخماً وموضوعات غير عادية، ظلت مهملة. معنى ذلك أن العراق لم يقف أمام مهمة إدراك مقوماته الوطنية كضرورة، إلا اليوم ومن هنا فصاعداً، وأن ما سبق اقتصر على الاستنساب والمزاج، أو استعارة المفاهيم واستنساخها، أو تكرار مفاهيم موروثة لم تعد قابلة للحياة. فهل قيام الدولة الحديثة وانهيارها بين احتلالين، الإنكليزي الأول والأميركي الحالي، هو من مكونات السردية العراقية الحديثة، قبل الانتقال لوعي الذات ضمن العصر ووفق مقتضياته. ذلك أمر يستحق وقفات عدة، قبل أن نقول مطمئنين إننا قاربنا الإجابة عنه. * كاتب عراقي