حوّلني الدكتور طبيب الأسرة إلى أفضل استشاري في الجهاز التنفسي للأطفال في المقاطعة. في العيادة تعمل سكرتيرة بدينة ذات شعر فضي، تشبه «مدام ماريكا» اليونانية في أفلام الأبيض والأسود. خرج الاستشاري لاستقبالنا، رجل قصير، شعره أصفر منكوش، عيناه زرقاوان ضيقتان. سألني أسئلة عدة، أحدها عن ديانتي فلم أجبه، فقال بخبث إن مرضاه من المصريين مسيحيون، ونحن أول مسلمين مصريين نأتي إليه. لم أفهم مغزى العبارة، فلم أعلق. قال إنه زار القاهرة غير مرة، وسألنا «كيف نعيش وسط كل هذا الغبار». حاولت أن أخبره أن القاهرة فيها أشياء كثيرة أهم من الغبار، كيف لم يلحظها، لكن محمود قاطعني وشكره بابتسامة ودود يجيدها عند اللزوم. كان يتعمد ألا يرد على أسئلة ريم، يتجاهلها تماماً، لكنه يفحصها جيداً، ويتابع حالتها كأي طفل آخر، ويثني على اهتمامي بها وحرصي على العلاج. ويؤكد لمحمود أنني المعالجة الحقيقية، ثم دائماً يختم بعبارة: «أنا منبهر أن هناك مصريين على تلك الدرجة من الوعي». وكنت أذكره بأن مصر بلد ذات حضارة، وأسأله بحدة كيف يطلق أحكاماً عامة، وهو لم يعش في مصر، فينهي المقابلة وهو يبتسم لأنه استفزني، ونجح في أن يترك بنبرته المتعالية هذه الكراهية. تشابَه الدكتور غورويدز مع الأطباء المصريين في سرعة البديهة، ومعرفة التشخيص من دون انتظار الأشعة والتحاليل. لم أر طبيباً كندياً يحاول تشخيص حالة بمجرد الكشف على المريض. لا بد أن يطلب تحاليل وأشعات - يوجد تأمين صحي مجاني - ولا يصل إلى التشخيص إلا بعد الحصول على النتائج، تقريباً لا يحتاج لأي مجهود ذهني. حين مرضت ريم، كان غورويدز في إجازة الأعياد. عانت من حمى شديدة وكحة متواصلة لثلاثة أيام، ولم يجدِ معها الدواء المعتاد، فذهبنا إلى مستشفى الأطفال Kids Hospital «أكبر مستشفى تخصصي في كندا». رغم أن في المستشفى 25 غرفة كشف، فقد انتظرنا عشر ساعات من الثانية عشرة ظهراً إلى العاشرة مساءً. وأخيراً التقينا الطبيبة التي بدت مرهقة جداً وعصبية، لم تستطع تشخيص الحالة فاستأذنت لاستشارة رئيسها، ثم عادت وطلبت منا الاستمرار في العلاج القديم لأنها لا تعرف تشخيصاً للحالة. عند منتصف الليل عدنا منهكين، وريم أسوأ حالاً. - «التهاب رئوي غير نموذجي»، «Atypical Pneumonia» نطق دكتور غورويدز التشخيص بطريقة استعراضية، قبل أن أكمل له الشكوى. فبدا مختلفاً عن الأطباء الكنديين وأقرب للأطباء المصريين من ذوي الخبرة الطويلة. ثم أكمل وهو يضغط على مخارج الحروف مهوِّناً: - وهو يحتاج إلى راحة وسوائل فقط، ويشفى من تلقاء نفسه. ولم ينس السخرية من أطباء مستشفى Kids Hospital متواضعي المستوى. كان يستمتع بإظهار ذكائه ليبدو الوحيد الذي يعرف طريقة تفكير الشرقيين. عمل غورويدز أكثر من ساعات العمل القصوى، رغم أنه لن يحصل على مقابل، لأن هناك سقفاً للدخل، لكنه أجهد نفسه في العمل، ليتعلم أكثر ويصبح من كبار الاستشاريين في تخصصه، ويظل سابقاً الآخرين بمسافة. لم تكن عيناه زجاجيتين كأغلب العيون الزرق، كانتا معبرتين، في أعماقهما مشاعر غير مريحة، تومض في لحظة يطمئن فيها إلى انشغالي، وحين ألمحه يخفيها بمهارة. منذ اشترينا منزلنا من Edith معلمة في أواخر الأربعينات، كندية من أب تشيكي وأم ألمانية وهي تمر شهرياً لتأخذ الخطابات التي ما زالت تصلها الى منزلنا. تتسلم الخطابات وتعتذر عن تناول القهوة، لكنها اليوم وهي تتفقد الخطابات بدت مرتبكة، ثم طلبت فنجاناً من القهوة. على طاولة المطبخ جلست، بدت فجأة عجوزاً متعبة. سألتها إن كانت بخير، فقالت إنها تعاني من صداع، ثم أجهشت بالبكاء، ورمت الخطابات أمامي وقالت إنها تتعرض للابتزاز، وإنها دفعت من مالها الكثير، وتخاف دائماً أن تشكو لأحد. لحظتها فقط اكتشفتُ أنها امرأة وحيدة لديها مشاكلها. تصورتها دائماً قوية وعملية، وبلا عواطف. كانت الخطابات من جمعية محلية تطلب تبرعات للإسرائيليين ضحايا الإرهاب الفلسطيني. كلها تعج بصور الجرحى والقتلى، لكنني صرخت حين تبينت في الخلف الوجه الذي أعرفه. كان يتوسط الصورة التي تجمع مؤسسي الجمعية، وجه مبتسم بعينين ضيقتين زرقاوين تخفيان في أعماقهما مشاعر غير مريحة.