محاولة لمعرفة قواعد عشق الولد التركي. في قواعد العشق الأربعون للتركية أليف شفق، وهي عن جلال الدين الرومي، رأت شفق الملائكة، في حانة بظاهر سمرقند، التي ما زلت أحلم برؤيتها، والرواية أيضاً عن «أيلا» الجميلة المسكينة التي رأت حياتها مثل مياه راكدة، حياة عادية ورتيبة دائماً، فانفجرت روحها مثل فقاعة. كانت البداية مع قطعة من الحجر سقطت في بحيرة، ولهذا فلم تعد البحيرة هي ذاتها مرة أخرى، لهذا وجدت أن حكايتي مع الولد التركي تشبه حجر بحيرة «أليف شفق». لكنني حين رأيت الملائكة تحف بسريره الصغير، وهو يخرج من الباب الواسع، صحبة ابتسامة الممرضة الفيليبينية الأنيقة، حيث كان قد وصل في السابعة وخمس دقائق من يوم الأربعاء العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2012، شعرت بحياة تتجدد من خلال دفء غريب وهادئ يغمر الروح والمشاعر، قلت وصل الولد الخالد. تذكرت حكاية صغيرة، إنه في لحظة تاريخية عصيبة في حياة الأمة العربية، قبل سنوات قصيرة، وصل محروس إلى الرياض تحفة الملائكة، أرسله لي الصديق المبدع وحيد الطويلة من الدوحة قبل ثورة 25 يناير، كان محروس بين الحياة والموت، لكنني استطعت تقليبه على ظهره ثم على بطنه، لكي أحاول فهم حكايته بالضبط، فاكتشفت أنه حي، إنه محروس بطل رواية المبدع العربي المصري وحيد الطويلة «أحمر خفيف». نظرت للولد الذي قدم تواً، شعرت أن الملائكة تحف بالوقت من كل جانب، كان وجهه مضيئاً، وكنت أرى فيه نوراً عميقاً تصاحبه رغبة نوم عميق، كان ينظر للمحيطين بعربته الصغيرة من نساء وأطفال بانبهار وغموض، ربما كان يرانا مثل ظلال أو مثل أضواء خافتة تهتز، وكنا نراه مثل قطعة لحم صغيرة حمراء ملفوفة، في بياض يليق باللحظة المبهجة المربكة والمبهجة والسارحة والهائمة، التي وضعنا فيها قدوم سموه الميمون. رأيته مثل رجل صغير، كان حجمه صغيراً جداً بوجه مدور وشعر رأس قليل وعينين فيهما لمعة ساحرة، كأنه حجر صغير سقط في بحيرة وقتنا، فلم يعد وقتي هو وقتي الذي أعرفه، ولم أعد أنا، الذي كنته قبل سقوط هذا الحجر الأصيل. وكنت أسرق اللحظات، لأفكر في مسألة سحر «تكون» مثل هذه الكائنات اللذيذة، منذ البداية، حتى لحظة الوقوع في كمين جاذبية الأرض. كنت أريد أن أسميه خالد، شعرت أنه سيفرح بهذا الاسم الخفيف بمعناه الخالد، لكنهم سمّوه تركي في غفلة مني، حين كنت سارحاً في تأمل طفولة وجهه وروحه الجديدة، قلت لا بأس، فلهذا الولد التركي سأخترع قواعد لعشقه مثل نص جديد، كما حاولت أليف شفق مع أحبابها وعشاقها، وقلت إن هذا الولد التركي سيحرضني على زيارة إسطنبول مرة أخرى، ومنها إلى حبيبتي سمرقند، صحبة هذا الولد التركي الجديد، الذي يمكن أن يقال عنه إنه، ولدنا الجديد، لكنه قد لا يكون كائناً مؤجلاً بعد أن دشن الشعب العربي الجديد ربيعه الأسطوري الساحر. محاولة الكتابة خارج السطر المستقيم أظن أنني لا أستطيع الكتابة على السطر، سطر الموضوع وسطر اللغة وسطر الشكل، ليس لأن في يدي عوجاً، وليس لأني لا أستطيع التركيز على السطر، وليس لأني قليل نظر أو قليل أدب، لكن أشعر أن الكتابة على السطر تقيد هواء العشق، تمنعه من الانطلاق، تمنعه من كتابة اسمه بشكل جديد ومختلف. الكتابة فوق السطر، أو تحت السطر، ليست لها علاقة بالفوضى والنظام، لكن لها علاقة بالقيد والحرية، ليس هناك سطر مقدس لا يمكن الكتابة فوقه أو تحته، وليس هناك نص أدبي له قواعد رسمية. ليست هناك قصيدة واضحة القواعد أو رواية رسمية أو قصة قصيرة رسمية... وليست هناك قواعد لكتابة النص المفتوح على ظروف الحياة الجديدة... القواعد وهمية مرسومة في رؤوس المنظرين الجدد الذين يبنون الأسوار بين النصوص، مثلما بنى المجتهدون الأشاوس الأسوار حول بيوتنا ومدارسنا فتحولت إلى ما يشبه السجون. لهذا يمكن القول إن الفنون بشكل عام والأدب بشكل خاص لا يكون رفيعاً إلا حين يقترب من قضايا الناس ويدافع عنها بلغته الفنية العالية وبساطته وعمقه ووضوحه، ويبتعد من أدب الإثارة والغرائز المفتعل والمتعجل الذي نقرأه كثيراً، لكن من دون الوقوع في حفرة المباشرة والتقريرية، لهذا مثلاً فإن بطل الرواية المواطن المهمش والمهمل والمسلوب الإرادة الذي لم يستطع التكيف مع واقع متناقض ومتسلط وفوضوي، ليس مناضلاً سياسياً كما قد ترى بعض الاجتهادات النقدية، لكنه ضحية صغيرة مثله مثل كثير من المواطنين الذين لا يملكون القدرة على فعل شيء، كما أن المهم في الرؤية النقدية الحديثة قيمة ومعنى وقدرات ولغة النص السردي بغض النظر عن جنسه أو عدد صفحاته، فالنص السردي «الحمامة»، مثلاً، للروائي الألماني زوسكيند هي «رواية» على رغم عدد صفحاتها الذي لم يتجاوز ال80، لكن الجميع يتعامل معها على أنها نص روائي وليس شيئاً آخر، لأن ما يشغلهم مستوى النص وليس تصنيفه أو جنسه أو عدد صفحاته، إذ ليس هناك داعٍ للتركيز على عدد الصفحات، وإهمال الجانب الموضوعي والفني في الرواية المحلية والعربية التي تعاني في الغالب من ضعف المضامين والمواضيع وضعف اللغة السردية... والدليل تورط بعض جوائز عربية مهمة وترددها، في مرحلة سابقة، أمام عدد من روايات الصف الأول العربية الضعيفة. محاولة لتلافي التصادم حين يكون المناخ يابساً وقاسياً من دون أدب ومن دون رؤية ومن دون قيمة ومن دون فن ومن دون جمال ومن دون مشاركات جماعية تزهو بها الأرواح الظامئة للنساء والرجال والأطفال سوية، حين يكون الوقت غامضاً ومملاً، والعمل بلا إنتاج حقيقي، والحياة بلا روح جديدة، والصورة العامة مغطاة بغبار قديم تصعب إزالته، حين تسيطر الفوضى، حين تموت الرغبة ويصبح الأداء اليومي روتينياً بارداً بلا معنى، حين يكون العمل بيروقراطياً شكلياً جاهلاً، وتغيب القيم الكبرى للمسرح والسينما، ويغيب البحث العلمي الجاد، ويغيب الإنتاج الحقيقي، حين تتحول برامج الإعلام التلفزيوني إلى تهريج باسم الثقافة والترفيه، أو إلى دعوات لتقييد الحريات وإخفاء المرأة خوفاً من الذئاب، وكأن الحياة صارت شهوة وغريزة يصعب على وعيهم الصغير تقنينها أو السيطرة عليها. هنا... يفقد الآدمي آدميته، ويفقد الأدب أدبيته ويفقد الوقت روحه وموسيقاه... وهنا يكون رد الفعل الطبيعي من هذا الإنسان المرتبك، تجاه هذا المناخ، إما تطرفاً وتشدداً دينياً مليئاً بالخوف والشك والقلق، فيتحول الدين من جو روحاني داخلي، إلى مظهر خارجي، يتحول إلى وظيفة وثقافة صوتية ونصائح وشعوذات، أو يكون رد الفعل تحرراً منفلتاً من كل القيم والأخلاق، مصحوباً بقلة أدب وفساد وغياب للوعي، هنا تتصادم ردود الأفعال مع بعضها في مجتمعات فارغة من القيمة، وممتلئة بوقت مهدر، وكل فريق يظن أنه الأصح، وتصبح الحياة تمثيلاً وحرباً وكآبة. ويضيع الوقت في الوقت الضائع... وفي كلام يتكرر سنوات طويلة بلا نهاية وبلا قيمة. وهنا أخيراً تتحول الحياة إلى سلعة سخيفة غالية الثمن تصعب على البسطاء والفنانين والمبدعين والفقراء، ويتحول النص الثقافي الفني الأدبي أيضاً إلى سلعة بلا معنى وبلا قيمة جوهرية. وتغيب الجدية التي تخضع لرقابة صارمة من هواة التلصص على الحياة. * روائي سعودي.