قبل أسابيع، وفي 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، احتفلت «اليونيسكو» باليوم العالمي للفلسفة، اليوم الذي يُعيد للفلسفة بحقولها المتنوعة حضورها الاجتماعي والإعلامي، بدلاً من العزلة القاسية التي تعاني منها مجالات الفلسفة، وبشكلٍ أخص في المنطقة العربية، أو في العالم الثالث عموماً، من هنا يمكننا أن نقرأ علاقة الفلسفة بالحضارة، إذ الفلسفة ليست ترفاً، من الطبيعي أن كل منجز حقيقي حضاري أو علمي أو تقني يقوم على تأسيس، وجذور كل تأسيس تشرح شكل الفلسفة، وتوضح تجليها الحقيقي، في جوف كل بحر نعمةٍ قدمتها المنجزات الحديثة للإنسان مكونات فلسفية متغلغلة في الأعماق كاللآلئ الثمينة، وكل التحولات الرئيسة التي مر بها التاريخ البشري بُنيت على فلسفات، حتى على مستوى الخطابة والفن والمسرح والفنون بأشكالها وأصنافها. لم يكن للفلسفة من أعداء سوى الذين لا يفهمونها، أو الذين يخافون منها بدافع بقايا دروشة مبخّرة بروائح الشعوذة، أولئك الذين يخافون من مطارق الأسئلة، ومن الهوي في فوهات الغموض، ولهذا تزعق باستمرار الأصوات التي تحاول تغطية أزماتها النفسية والذاتية، ومشكلاتها العلمية وقضاياها العملية، عبر تشويه مصير قارئ الفلسفة، والربط بين الاطلاع الفلسفي وبين الإلحاد والزندقة، وهو هجوم لا قيمة له على الإطلاق، خصوصاً حينما يأتي ذلك الزعق - ليس من رموز لها قيمتها العلمية والدينية، كما هي الحال مع عداء الغزالي أو ابن تيمية - وإنما من «لافظي حروف» تجسّدت فيهم وعبرهم علامات التفاهة. وفي معرض إيضاح جدوى الفلسفة نكتفي بذكر حجاج أرسطو على من لا يرى قيمة حقيقية للفلسفة، حينما كتب: «إما أن التفلسف ضروري فلا بد من التفلسف، وإما أنه غير ضروري فلا بد أيضاً من التفلسف لإثبات عدم ضرورته». كما أن الفلسفة ليست مجرد قرار اعتباطي، ولا مجرد ثرثرة ولا تنظير مجاني، وإنما هي نتاج قلق عميق يحدث بين الإنسان ومحيطه، يبدأ من الطفولة فتنمو الأسئلة مع نمو العقل، وربما تموت كما هي حال عقول غالبية المجتمعات التي تتغذى على موائد القطعيات الرخيصة التي لا تحتاج إلى طول عناء، إذ الفلسفة، بحسب مارتن هيدغر: «هي من فعل الوجود». إن الحس الفلسفي يتجلى عبر مظاهر عدة، تبدو آثاره في طفرات الفرح، ومطارق الألم، ويتجلى ذلك الحس كثيراً في معاني «الإرادة»، حينما لا يستطيع الإنسان أن يعود بالزمن إلى الوراء ليعدّل على أخطائه الماضية، لهذا كان الزمن من المفاهيم الرئيسة في الفلسفة، إذ دخل الزمن في المعالجات الفلسفية عبر المدى، والتتالي، والأمد، والأبد، وأفكار النهايات، ومفهوم الزمن. لم ترتبط الفلسفة بمفهوم كما ارتبطت بمفهوم الحياة، إذ الحياة هي محتوى التصرفات البشرية، سيئها وقبيحها، ولم يخطئ من وصف الحياة ب«المسرح العفوي» الذي يمارس فوقه الناس تشكيلاتهم الذهنية والفكرية والنفسية كافة، فتعبّر الأفعال عن الذوات، ف«الحي» يعاصر كتلة من الظروف، فيما يختزن «الإرادة» التي تدفعه نحو الفعل، فيجر على ظهره كل حياته، ومحايثة «الإنسان» للحياة تملأ لحظاته الزمنية البعد التاريخي وفي كل «حياة» خيط تاريخي، والتاريخ بوجهٍ ما هو المجال الزمني الذي يتم فيه التوصل إلى مجالات رؤيوية تتخطى الحدود. كما تحضر الحقيقة والبحث عنها، أو الصواب واستجلاء أثره في كثير من مناشط الإنسان العاقل في حياته، فالإنسان يفتقر إلى تلك اللؤلؤة الضائعة التي بوجودها تكون قيمته في تحقيقها والحفاظ عليها، سواء كانت تلك الجوهرة فلسفة محددة أو قيمة أو مبدأ أو فكرة، «فحقيقة كوننا موجودين تنطوي في صميمها على سرّ معتم غامض، هذا السر يعطي الحياة وزناً لا نهائياً، ففي هذه الحياة يتقرر شيء ما»، هكذا يقول كارل ياسبرز. الفلسفة عمق وسطح، تتراءى لنا مع كل ألق أو قلق، بالأفراح والأتراح، إنها صديقة الإنسان الموجود. [email protected] @shoqiran