عدن بوابة البحر الأحمر، ونافذة يمنية على العالم الخارجي. كان ميناؤها ذات يوم من أكبر الموانئ الطبيعية في العالم، وفي الخمسينات من القرن الماضي صُنّف ثانياً في العالم بعد ميناء نيويورك. هذه المدينة، حاضنة البحر والجبل، والمتميزُ تاريخُها وتراثها بالوئام بين أجناس وأعراق وديانات مختلفة، لها شواهد كثيرة، من أيام ريادة عدن منذ أربعينات القرن العشرين، حين شهدت صدور الصحف ودوران آلات المطابع ونهضة الحركة الفنية والمسرحية وولادة الأندية الثقافية والاجتماعية. ومن الشواهد الباقية حتى يومنا هذا «مكتبة عزيز» في منطقة التواهي، فهي معلَم ومرجع منذ أن افتتحها عام 1946 صاحبها عبد العزيز عبد الحكيم، الذي أحسن اختيار موقعها في الطابق الأرضي لفندق «ميرامار»، أمام مدخل الميناء السياحي في التواهي، وفي جوار إدارة الهجرة والجوازات للميناء البحري. وكانت المكتبة في ذلك الوقت قِبلةَ السياح الآتين إلى عدن، أو محطّةَ مرورهم فيها لمواصلة رحلاتهم إلى العالم القديم أو الجديد. كثيرون كانوا يحرصون على التزود منها بأحدث الكتب والإصدارات الأجنبية والروايات المختلفة، بالإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، إضافة إلى بطاقات التهنئة والطوابع البريدية والعُملات النقدية وصور فوتوغرافية نادرة لعدن طُبعت في بريطانيا وتُعدّ منتجاً خاصاً بالمكتبة. من هذه الصور واحدة تزيّن المكتبة للملكة إليزابيث الثانية وكانت لا تزال صبية، على صهوة حصان في إحدى ساحات مدينة التواهي، وذلك عندما أمضت أياماً من شهر العسل في فندق «كريسنت» عام 1954. وازدهر نشاط المكتبة وكثُر زوارها مع تفاعل الحيوية والنشاط في ميناء عدن خلال حكم الإدارة البريطانية. حتى بعد الاستقلال الوطني في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 وحركة التأميم، عندما تراجع النشاط السياحي والاستثماري في عدن، استمرت المكتبة بزخم، بفضل جيل كان لا يزال مسلحاً بالثقافة وإجادة اللغة الإنكليزية، بين من درسوا في عدن أو في الخارج. يذكر كثيرون ممن كانوا أطفالاً في تلك الفترة، كيف كانوا يفرحون عند مرورهم مع الأهل بجانب المكتبة، ويتلهفون للفرجة على الكتب المختلفة وبعضها مزيّن بصور وألوان جذابة. لم تكن اللغة الأجنبية عائقاً أمام تمتعهم بالمشاهدة. تحكي جميلة كيف كانت تشدّها كثيراً زاوية قصص الأطفال وبطاقات التهنئة بأعياد الميلاد والمواليد: «صورها الجميلة ورسومها الواضحة كانت بالنسبة إلينا أبلغَ من ألف حرف، كما حرصت، مثل غيري، على شراء بطاقات المعايدة الجميلة للمناسبات الخاصة والأعياد الإسلامية ورأس السنة الميلادية التي كنا نحتفل بها في المدارس والبيوت». كثيرون عاشوا تلك الذكريات الجميلة ويستحضرونها اليوم بحسرة، نتيجة لما وصلت إليه حال المكتبة خصوصاً وعدن عموماً، فالمكتبة اليوم مغلقة، إلا في ما ندر، وإن فتحت أبوابها يكتشف الداخل إليها كتباً قليلة متبقية، تكللها الأتربة والرطوبة، على رغم حرص مدحت (ابن مالكها) على الاهتمام بها وتنظيفها والقضاء على النمل الأبيض الذي لا ينفك يجتاحها. وعلى بوابة المكتبة دوّن مدحت رقم هاتفه، معرباً عن استعداده لتلبية طلب أي شخص يود زيارة المكتبة، لأن عمله الحكومي في الصباح يصعِّب عليه التواجد فيها. يجد مدحت في أوقات فراغه سلوى كبيرة في الجلوس في مكتبة أبيه الشهيرة، رغم انعدام مرتاديها تقريباً، وإصابة النشاط السياحي في اليمن بالشلل، خصوصاً بسبب الأوضاع الأمنية وغياب أي خطة تنموية جدية. تحتفظ Aziz Bookshop باسمها الإفرنجي حتى اليوم. توفي صاحبها عزيز عام 2003، وها هو ابنه مدحت يبذل ما في استطاعته لحفظ ذكريات طيبة عن والده ونشاطه في المكتبة، لا سيما ما كتب عنه في الصحف اليمنية والأجنبية، ويرينا واحدة بالإنكليزية نشرت صورة والده في صدر الصفحة. ويقول إن الراحل عزيزاً اعتاد أن يمكث في المكتبة أياماً، وأحياناً لأسبوعين من العمل المتواصل. ولإتاحة الفرصة لمرتادي المكتبة للشراء، وضع في مدخلها كشكين خشبيين بأبواب زجاجية، لتوزيع المهمات على المساعدين من أجل ملاحقة البيع لزبائن من كل جنسية وثقافة. وفي غمرة نشاط المكتبة، ومع اشتداد الكفاح المسلح الوطني في عدن، حدث ما لم يكن ليخطر في بال صاحب المكتبة آنذاك، إذ باغتت الرجل حادثة مقتل بريطاني في مكتبته، بل وأمامه، فاعتقلته السلطات البريطانية، ولم ينج من التحقيقات والاحتجاز إلا بوساطة أشخاص إنكليز من رواد المكتبة، ممن أكدوا دماثة أخلاقه. ما زالت «مكتبة عزيز» واحداً من المعالم المميزة في عدن، خصوصاً التواهي، إلى جانب ساعة «ليتل بيغ بن» - عدن، وتمثال الملكة فكتوريا، سواحل الشاطئ الذهبي، وبوابة رصيف عدن وفنادقها القديمة، ومبنى الإذاعة والتلفزيون... عندما كانت المدينة منارة فعلية... وتعاني اليوم كَدَراً.