يُصور فيلم «بعد الموقعة» قصة يفترض انه جرت أساساً في قرية اسمها نزلة السمان في محافظة الجيزة بعد الهجوم الذي قام العشرات من رجالها يوم 2 شباط (فبراير) سنة 2011 بشنّه على الجماهير الثائرة التي تجمعت بمئات الآلاف في ميدان التحرير. قام هؤلاء الرجال بالهجوم وهم يمتطون ظهور الجمال والخيول وهذا بعد أسبوع من إندلاع الثورة، والتي أطاحت بعد ثمانية عشر يوماً بحكم مبارك، وأسرته، وعدد من أعوانه المقربين. ونزلة السمان قرية تقع في حضن الجبل الذي بنى فوقه الملوك الفراعنة الأهرامات الثلاثة كمدافن لهم، واحتوت أيضاً بعض الذين كانوا في بلاطهم، أو ساهموا معهم في الحكم. مهنة سكان القرية الأساسية هي مصاحبة السياح في جولاتهم على ظهور الجمال، والخيول التي يملكونها، أو التي يملكها بالأحرى عدد محدود من الموسرين، والطواف بهؤلاء السياح حول الأهرامات، وتمثال أبو الهول القائم أسفل الجبل، مقابل أجر. وإضافة الى ذلك إسداء بعض الخدمات الأخرى للسياح الذين يرغبون فيها ومن بينها مثل تغيير عملاتهم الصعبة في السوق السوداء، أو تدخين الحشيش في الأفراح أو في غيرها، أو خدمات تتعلق بالجنس خارج نطاق الزواج، أو بعد عقود زواج مؤقتة بين نساء من السياح ورجال القرية. يُقال حتى الآن أن هذا الهجوم قام بتدبيره صفوت الشريف وزير الإعلام ثم الأمين العام للحزب الوطني الديموقراطي ورئيس مجلس الشورى في عهد مبارك، وذلك بالاتفاق مع أعضاء في مجلس الشعب السابق من ذوي المصالح في نزلة السمان. الممثل الرئيسي في هذا الفيلم هو باسم السمرة الذي نشأ في هذه القرية، ثم اختار لنفسه طريق الفن وأصبح ممثلاً مرموقاً. ويبدو أن علاقته بهذه القرية هي التي أوحت ليسري نصرالله بعمل فيلم يتخذ منها مكانه، وركيزة للأحداث التي تجري فيها. فهي قرية لها طابع متميز بسبب ناسها، ومبانيها، ووجودها في منطقة أثرية مهمة، فضلاً عن الخيول الجميلة والإبل التي تُشكل جزءاً جوهرياً من حياة سكانها. عن الحكاية تدور القصة حول ريم (منة شلبي)، ومحمود (باسم السمرة)، ومن حول حياة كل منهما، وحياة الناس الذين يتحركون في أوساطهم، والعلاقة التي تقوم بينهما، وما يحدث لهما في الأيام الأولى بعد انتفاضة 25 كانون الثاني (يناير) التي هزت كيان المجتمع. ريم امرأة شابة تعمل في إحدي شركات الإعلان لكنها في الوقت نفسه تقوم بنشاط اجتماعي سياسي بين النساء. هي امرأة مثقفة تتميز بشخصيتها المندفعة، وتعاني من فشل حياتها الزوجية. لذلك تسعى للطلاق من زوجها، لكنه يرفض هذا الحل، ويُحاول أن يستعيد علاقتهما الزوجية. أما محمود فخيّال يعمل مع السياح في نزلة السمان، وهو رجل طويل القامة، أسمر البشرة، فيه جاذبية، متزوج من فاطمة وله منها ولدان. شارك في الهجوم على المتظاهرين في ميدان التحرير لكنه وقع من على ظهر حصانه، وأوسعه بعض المتجمعين في الميدان ضرباً فتم تصويره في فيلم فيديو، وأصبح يُعاني نفسياً من هذا السقوط، ومن إزدراء المحيطين به في القرية نتيجة ما حدث له أثناء الهجمة. ريم تحيا في شقة صغيرة مزودة بكل وسائل الراحة، لديها كلب جميل اسمه رُز تُعالجه أحياناً عند صديقة اسمها دينا تعمل طبيبة بيطرية وتملك ما يمكن تسميته بمستشفى للكلاب. هذه الصديقة تتطوع بتوزيع علف الخيول في نزلة السمان حيث يُعاني سكانها من القحط نتيجة توقف النشاط السياحي بعد الثورة. تُصاحبها ريم في هذه الزيارة لترى ما يدور، فتقع نظراتها على الخيال محمود وهو يُصارع لنيل نصيبه من العلف، ويُطرد بسبب سقطته في ميدان التحرير. تعود ريم مرة أخرى مع دينا إلى القرية في المساء لتُشاهد استقبالاً ينظمه السكان للحاج عبدالله أحد «أباطرة» نزلة السمان (قام بدوره صلاح عبدالله) وتنبهر باحتفال سكان القرية، وتصرفاتهم، وشخصياتهم الخشنة البدائية، برقصات الخيول الجميلة، وإيقاعها، بالليل والأهرامات المطلة عليها، بهذا الجو الجديد عليها. أثناء الإحتفال يقوم الحاج عبدالله بطرد محمود من حلبة الرقص وعندما يبتعد هذا عنها سائراً مع حصانه في ظلمة الليل تتبعه ريم وتلحق بهذا الشاب البدائي الأسمر، صاحب الجاذبية الذكورية، وتتبادل معه قبلة طويلة، شرهة كأنها عطشى لحب، وجنس من نوع مختلف. لكن ريم في هذا الفيلم ليست فقط امرأة عطشى إلى هذه العلاقة المختلفة، فبعد هذه القبلة التي صُورت في الفيلم بسرعة من دون تمهيد، نراها وقد اندمجت في نشاطها السياسي، في النضال الذي تخوضه من أجل أهداف الثورة، متحدثة متحمسة في الإجتماعات النسائية، ثم نراها في الشركة وهي تناقش زملاءها، وتتأمل صورة محمود وهو يسقط من على حصانه. بعد أيام قليلة تعود إلى نزلة السمان، إلى محمود وأسرته، وإلى سكان القرية لإقناعهم بأهداف الثورة فهم يرون أن هذه الثورة هي التي أوقفت السياحة، وخربت بيوتهم، لكنها تنجح في إقناعهم بتغيير موقفهم، والشروع في مساندة تطوراتها، بل واشتراك بعضهم في تظاهرات ميدان التحرير. الثورة من الخارج لا شك أن المخرج يسري نصرالله أراد بهذا الفيلم أن يصنع عملاً فنياً يُقرب المشاهدين من الثورة. لكنه في هذا الفيلم لم ينجح كمخرج، ولم ينجح السيناريو، ولم تنجح شخصية ريم، وتصرفاتها، وكلامها في إعطاء صورة حقيقية للثورة، للعوامل التي تقود الناس إليها، لما يحدث من تغيّر في مواقفهم، وكيف يتم هذا التغيّر. حاول السيناريو أن يتناول موضوع الثورة، أو جوانب منها، أن يتناول الثوار، والناس العاديين، ومواقفهم لكنه ظل يتحرك من حولها، ولم يتمكن من إقتحام واقعها ليصل إلى جوهرها الحي. فأسبغ على الفيلم تطورات بدت مفتعلة، ومصنوعة، ومبالغ فيها وبالتالي غير مقنعة. واجه المشاهد بشخصية ريم المرأة المرفهة نسبياً في حياتها، وهذا بالطبع ليس عيباً في ذاته، ولكنه في تصويره لها بدت آتية من أوساط غريبة عنها. لذلك هي تُوزع المواعظ الحماسية بشكل مستمر على جميع الناس، على النساء اللائي تجتمع بهن، على محمود وزوجته، في اجتماعاتها مع سكان نزلة السمان. شاب الفيلم الخطب الطويلة، والحوارات الأطول المليئة بالكلام المجرد عن الثورة، فلم تتجسد فيه بعض التفاصيل، أو بعض المشاكل التي تواجهها وتسعى إلى حلها. الكلام الموجه لسكان نزلة السمان لم يكن ليُقنعهم بالتغير بعد أن عاشوا سنين طويلة في ظل أوضاع تعودوا عليها، وارتبطت بها مصالحهم. لم يكن من الممكن أن تُقنعهم المرأة الشابة التي ليست منهم، أن يتغيروا في مواقفهم تحت تأثيرها. كان لا بد أن تكون هناك تجارب، وأحداث تُوصلهم إلى ما وصلوا إليه، ولم يكن من الممكن أن يحدث هذا فجأة نتيجة بعض الإجتماعات. واقع الحياة يقول أن هذا لم يكن ليحدث إلا خطوة بعد خطوة، فسكان هذه القرية من العتاة الذين صنعهم النظام، صنعتهم العادات والتراث والمهنة التي يقومون بها وصبتهم في إطار متجمد إلى حد كبير. هذا لا يعني أن العتاة لا يتغيرون لكن التغير لا يتم على هذا النحو الرومانسي المجرد والساذج. إنهم أدوات لنظام في الأساس حتى وإن كانوا ضحاياه. يسري نصرالله من المخرجين الذي أعطوا للسينما المصرية أفلاماً لها قيمة تاريخية وإنسانية، ولبعضها أعماق نفسية مرتبطة بحياة الناس، لكنه في هذا الفيلم ربما تسرع لرغبة منه في إعطائنا عملاً يكون إضافة ما الى الثورة. غير ان هذا القول لا يمنع ان للفيلم نواحي مضيئة منها اختيار نزلة السمان. وما ينبغي إبرازه على نحو خاص هو التصوير المتميز الذي قام به سمير بهزان، ذلك التصوير الذي شمل الأماكن، والمساكن من خارجها وداخلها، شمل الناس وأجسامهم وحركاتهم ونظراتهم في الإجتماعات والشوارع، وأثناء حركات الإحتجاج التي تمت في توزيع العلف وفي التظاهرات، في الظلال والزوايا والألوان، في رقصات الخيول وسباقها المندفع في الصحراء، في حركات عضلاتها وأقدامها. وتمثيل باسم سمرة أتى متميزاً ما عدا في بعض انفجارات الغضب التي طال فيها كلامه أكثر من الجرعة المقبولة. كذلك تمثيل ناهد السباعي في دور فاطمة. بدت فيه لمسات صغيرة حساسة في حركة جسمها ويديها، في نظرات عينيها، في ملامحها أعطت كلها صورة صادقة للمرأة الشعبية في مختلف إنفعالاتها. في النهاية يطرح الفيلم تساؤلاً: ترى هل من الوارد أن نتغاضى عن العيوب الفنية في أفلام يتم إخراجها أثناء فترات التغير السريع، والمندفع التي تجعلنا نلهث وراء الأحداث، إن كانت هذه الأفلام تساهم بشكل أو بآخر في دفع عجلة التقدم، أم أن الفن السينمائي الجيد والصادق هو وحده الذي يُمكن أن يقدم مساهمة إيجابية في صنع الوعي، والإحساس الوجداني الإنساني القادر على تغيير المجتمع إلى ما هو أفضل؟