كُتب الكثير عن منابع الإبداع الإنساني ومصادره، وربط كثيرون بين «الإبداع» وما يشبه «الجنون» أو الشطح لدى «العقل المبدع»، وذهب البعض الى حد القول إن النتاج الخلاق يولد من «اللا سوية» بمعنى أن المبدعين هم أناس غير أسوياء بالمفهوم السائد أو التقليدي، وبالتالي لا تنطبق عليهم المعايير التي تنطبق على سواهم من بني البشر. قد يكون في مثل هذه المقولات الكثير من الصحة نظراً الى كون المبدع يرى العالم من زاوية مختلفة ومغايرة، تتيح له استنباط ما هو غير مرئي أو غير مكتشف في النفس البشرية وهذا ما يجعله قادراً على تقديم كل ما هو جديد ومدهش. وكلُ جديد فعلاً هو حقاً مدهش، وكل مدهش متهم أو مدان (غالباً) من السواد التقليدي لأنه خارج عن المألوف لديهم، والخارج عن المألوف يراه البعض جنوناً وشطحاً يستحق الإدانة والرجم. يمكن الاستطراد طويلاً في البحث عن مكامن الإبداع الإنساني ومصادره، لكن لا بد من الفصل بين حالتين مختلفتين جذرياً: «اللا سوية الإبداعية» واللا سوية الإنسانية»، حيث يختلط الأمر على بعضهم فيخلط بين الأولى والثانية، أو يروح بحجة الحالة الأولى يبرر لنفسه أفعالاً وسلوكيات تندرج ضمن الحالة الثانية، فيكثر من النميمة والثرثرة والكلام الجارح والتصرفات الشائنة ما يفقد نصه الإبداعي صدقيته وموقفه النقدي جدواه. فكافة الأفعال السالفة شائعة جداً في الوسط الأدبي (وربما في كل «وسط» أو كار إنطلاقاً من واقع «أبناء الكار») بحيث يندر أن تسمع كلمة طيبة يقولها شاعر بحق شاعر آخر، أو روائي في روائي سواه، وقس على هذا المنوال، ولا يغرنك ان قرأت أحياناً موقفاً كتابياً يناقض الموقف الشفهي للشخص نفسه، فالإزدواجية شائعة في أوساط كثير من المثقفين الذين يقولون أو يكتبون أمراً ويمارسون عكسه. ما الذي يفعله النقد في الحالة المذكورة؟ وهل يكتفي بمسائلة النص أم يذهب الى مسائلة صاحب النص؟ الجواب شائك ومعقد، فالقارئ البعيد والمتلقي غير المعني ب «علاقات الدائرة» وعداوات أبناء الكار، لا يهمه سوى العمل نفسه. إذن، التمييز بين النص وصاحب النص ضروري، وقراءة النص في معزل عن «قراءة» واضعه أسلم وأخف وطأة، لكن هذا الواقع لا يعفي الناقد من مهمة نقد «العلاقات الثقافية» والسلوكيات المتبادلة، ودعوة المبشرين بقيم الحق والحب والخير والجمال الى التماهي مع ما يبشرون به، أم أن المبدعين يفرغون الشحنات الإيجابية على الورق ولا يبقى لديهم إلا ما هو سلبي وعقوق، ويصيرون في ممارساتهم اليومية غلاظاً قساة القلوب؟! للحديث صلة.