السؤال الذي طرحه عميد كلية الحقوق في جامعة القاهرة محمود كبيش في أحد البرامج التلفزيونية أخيراً حول دلالات دفع جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، عناصرها للتظاهر وهي ممسكة بزمام الحكم، يقود إلى سؤال آخر، أكثر تحديداً: هل تخطط جماعة «الإخوان المسلمين» بتنظيمها التظاهرات وبمحاولاتها تغيير طبيعة مؤسسات الدولة في مصر، لثورة ثقافية يقودها رئيس الدولة؟ الجواب الأكثر احتمالاً هو أن كل المؤشرات توحي بذلك. وإذا كان كثيرون في مصر يحذرون من «أخونة الدولة»، فهذا لا يعني بالضرورة أن الصورة واضحة وأن الخطر ماثل. فالخطاب السياسي البراغماتي في مصر تبسيطي لدرجة إضعاف قدرة الكثيرين على إدراك التحولات التدريجية في الخطاب الرسمي، واعتبار ما يجري تغييرات في بعض الأشخاص وفي بعض الممارسات الثانوية، فيرتبون على ذلك نتائج ثانوية. لكن الحقيقة هي غير ذلك تماماً. خذ مثلاً، علاقة الرئيس بالمساجد، وإصراره على الخطابة فيها. لقد حذر إعلامي ذو شعبية واسعة هو محمود سعد من أن هذا قد يغري ممثلي تيارات سياسية غير التيار الذي ينتمي إليه الرئيس بأن يفعلوا مثله، لتتحول المساجد، بعد ذلك، إلى ساحات للتدافع الحزبي بعد أن كانت هي الساحات الجامعة، ساحات التناغم التي تنتهي على عتباتها الخلافات. لكن هذا بالضبط هو ما يريده الإخوان، وبينهم الرئيس، أن يكون المسجد قلب الجماعة السياسية المصرية. وهذا هو جوهر المسيرة السياسية التي بدأت بتحويل الساحات العامة، وآخرها -وليس أولها- ميدان التحرير القاهري، إلى ساحة للصلاة وللتدافع السياسي، في آن. ولابد أن نشير هنا إلى أن بداية الصلاة في الساحات العامة وتسييس الشعائر يرجعان إلى سبعينات القرن الماضي، عندما أسس المرشد الثالث لجماعة الإخوان الشيخ عمر التلمساني، بالتعاون مع وزير الداخلية ممدوح سالم ومدير مكتبه النبوي إسماعيل، لبعث الإسلام السياسي، بفصائله التي تعمل اليوم في مصر، من موات تسببت به مواجهاته مع الدولة بين 1954 و1965. وبعد تصاعد محسوب وبطيء سمحت به البراغماتية التبسيطية لدولة ظنت أنها تستوعب، في أطرها الدستورية والقانونية، تياراً ذا قبول محلي ودولي واسع وتتقوى به، آن أوان ثورة ثقافية تؤسس،على أنقاض الدولة الحالية، لدولة دينية لم يكف الإخوان عن التبشير بها طوال 84 سنة. وإن لم يفعل الإخوان ذلك فقدوا مبرر وجودهم، على ساحة العمل العام، في نظر قواعدهم الحزبية وفي نظر المتعاطفين معهم. والثورة الثقافية مصطلح يثير الخوف لدى كل من يملك ذاكرة تاريخية. فهو يذكر بالثورة البروليتارية الثقافية العظمى التي أطلقها ماو تسي تونغ في 1966 وظلت تلطم وجوه الصينيين وتهز الأرض تحت أقدامهم حتى 1976. وكان هدف تلك الثورة فرض أرثوذكسية شيوعية على مجتمع اعتبر ماو والمجموعة المحيطة به أنه لم يكن شيوعياً بما يكفي. وقد يكون هذا أشبه بما يردده الإخوان، ليل نهار، يستوي في ذلك من لا زالوا على طريقة التصاعد المحسوب والبطيء، ويشار إليهم بالمعتدلين، أو من يفضلون المصادمات الحاسمة، ممن يشار إليهم بالقطبيين. فكلا الفريقين لا يكف عن الجهر بأنه يدعو إلى الإسلام، أمة أسلمت منذ خمسة عشر قرناً من الزمن الهجري، لكنهم لا يرونها مسلمة بما يكفي. وإذا كانت جماعة الإخوان تريد ثورة ثقافية مجتاحة، فهل هذا هو ما يريده رئيس الدولة الذي بايع مرشد الجماعة على السمع والطاعة؟ يبدو أن الثورة الثقافية تلح على عقل الرئيس وقلبه، ويبدو أيضاً أنه يقترب منها بحذر. ولا يمكن النظر إلى مواقفه من مؤسسة القضاء، مثلاً، إلا باعتبارها عمليات استطلاع لردود فعل المؤسسات القائمة (ولكن محاولة اقتحام مسكن المستشارة نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا تهاني الجبالي، يصعب وصفه بأنه مجرد عملية استطلاع) ومدى التفاف الناس حول هذه المؤسسات، قبل المضي قدماً، وراء الداعين إلى التعجيل بالثورة الثقافية. فهل استوعبت مؤسسة الرئاسة في مصر دلالات الرد القوي من جانب النائب العام عبد المجيد محمود الذي رفض أن يخرج من منصبه إلى سفارة لدى الفاتيكان؟ وهل سيقبل نائب الرئيس أن يوضع في موقف المعتذر الذي لم يقبل اعتذاره مرة أخرى؟ وهل يتعلم المعتدلون في جماعة الإخوان المسلمين مغبة الانقياد للقطبيين بعد أن خسر المعتدل (السابق) عصام العريان نقاطاً كثيرة، في السباق على رئاسة حزب «الحرية والعدالة»، بدعوته إلى خلع عبد المجيد محمود؟ الغالبية في الشارع المصري تتوقع أن تكون الإجابة عن هذه الأسئلة بنعم. البراغماتية التبسيطية تتفاعل مع ميل قديم إلى التماس العذر، كلما تيسر، للجالس على كرسي الحكم، وتتوقع منه، لأسباب تتصل بالميتافيزيقا السياسية، أن يغلّب العقل وينحاز إلى السلام الاجتماعي. لكن «الأخونة» أو «الثورة الإخوانية الثقافية العظمى»، تبدو هدفاً لا يملك سياسي إخواني حق التنازل عنه. فقد قال مؤسس الجماعة عن منهاجها: «هذا المنهاج كله من الإسلام وكل نقص منه نقص من الإسلام ذاته». إذن فأقصى ما يمكن توقعه هو تأجيل الثورة الثقافية. أما تجنيب البلاد شرورها فلا يكون إلا ببروز قوى ديموقراطية لا تخجل من علمانية الدولة، كما هي الحال اليوم، قوى ديموقراطية تخلق واقعاً اجتماعياً يفرض على «الإخوان المسلمين» مراجعة تنتزعهم من قبضة الأرثوذكسية الإخوانية، من حسن البنا إلى سيد قطب. * كاتب مصري