اوتوسترادات جديدة تمتد من مستديرة الصيّاد شرق بيروت، إلى الجسر الجديد الذي يصل الى طريق المطار القديمة، إضافة إلى ما يُعرف بالاوتوستراد السريع الذي يصل مطار بيروت بوسطها، وجسر طريق المطار الذي دخل مراحله النهائية من إعادة الإعمار بعد تدميره خلال حرب تموز (يوليو) 2006، وغيرها من الجسور والأنفاق التي يتم العمل عليها في إطار ما يُسمى بمشروع النقل الحضري، والذي يشمل مختلف طرق لبنان. جسور وأنفاق، تجعل من الضاحية الجنوبية لبيروت وعلى رغم كبر مساحتها وامتدادها، منطقة يمكن العبور من فوقها من دون المرور في أحيائها السكنية. هذه المنطقة التي يصفها البعض بأنها «دولة في داخل دولة» لما تتمتع به من «خصوصية» نابعة من تمركز «حزب الله» فيها، أصبح من الممكن تفادي المرور في شوارعها المكتظة لا سيما مع أعمال الحفر التي تحدّها من كل حدب وصوب. «ستعود أجمل مما كانت»، شعار رُفع في أعقاب العدوان الإسرائيلي عام 2006 في إشارة إلى ما ستكون عليه المنطقة. وإن كان الناظر إليها من بعيد يعتبر أنه كان في الإمكان أن يُعاد بناء الأحياء التي دمرت بأسلوب مختلف، اي على شكل أبراج سكنية على سبيل المثال توفر مساحة نسبية بين المباني، إلاّ أن القيمين على المشروع ارتأوا استبدال المبنى بآخر، فلم تطرأ تغييرات لافتة على صعيد البناء الخارجي للمباني السكنية، وإن كانت المنطقة المعروفة ب «الرسول الأعظم» نسبة إلى المسجد، تشهد نهضة عمرانية مختلفة، إذ تتميز المباني بألوان متشابهة، وركّز مهندسوها على استخدام الزجاج الملون والرخام. تراكم طوابق المباني الجديدة والمتناسقة إلى حدّ بعيد على جانبي طريق المطار، يرافقه ظهور لمحلات تجارية ومطاعم بعضها أميركي المنشأ ك KFC وأخرى تراعي ما يبثه التلفزيون من مسلسلات عربية ك «باب الحارة»، وثالثة اكتسبت أسماء عربية أو أجنبية ولكنّها كُتبت في شكل يحاكي «جيل الانترنت» و «الشات»، فظهرت K-FEE33 أو «كافيه 33»، و3AL الصاج أي «على الصاج» و3AJ2A CAFE أي «عجقة كافيه»، هذه المقاهي التي تبدو للوهلة الأولى من خارج النسيج الاجتماعي للضاحية الجنوبية، إلاّ أنها باتت تشكل متنفساً رئيساً لأبناء هذه المنطقة. يرتادها الشبان والشابات على حد سواء طالما أنهم يجلسون ب «أدب»، وهو ما يشرحه «أبو علي»، الذي يعمل في أحد المطاعم، اذ يقول: «نحن في مجتمع محافظ والجميع مدرك أنه في مكان عام يرتاده أطفال وعائلات، وقلّما نحتاج إلى تنبيه أحدهم على أمر ما، كالإمساك بيد فتاة أو ما شابه». ويعتبر افتتاح «بيروت مول»، إضافة كبيرة، إذ «إنه يفتح الخيارات أمام الميسورين من أبنائها، والذين يفضلون ارتداء ماركات معينة من الملابس غير تلك المنتشرة في أسواق المنطقة وإن كان بعضها على مستوى وغالي الثمن»، بحسب تعبير إحدى الشابات. تفرض فكرة «دولة ضمن دولة» نفسها على المتجوّل في أحياء الضاحية، «انهم أناس عاديون والمنطقة لا تختلف عن غيرها بشيء»، عند النظر إلى المباني أو المارين في الشوارع. ويعتبر قاطنو الضاحية الجنوبية أن «هذه الخصوصية» التي تخضع لها منطقتهم، وإن كان يُصنّفها البعض بأنها دولة ضمن دولة، «حق بديهي لحماة الوطن والمقاومة». المربعات الأمنية لا تزال قائمة، ولكن في ظلّ اختفاء معالم واضحة لها، بل يصل البعض إلى القول إن «الضاحية بأكملها باتت تحت سلطة حزب الله الأمنية بالكامل»، وهو ما يصنّفه البعض أنه «مطلوب، في ظلّ الفلتان الأمني الذي نعيشه». ومن اللافت، انحسار عدد عناصر الدرك والشرطة، كلّما أوغلت في الأحياء، حتى شرطة السير هناك تقتصر على عمّال البلدية دون غيرهم. وإن كان طرأ بعض التحسن على ذلك، منذ تولّي الوزير زياد بارود مهماته في وزارة الداخلية. وبات أبناء الضاحية الجنوبية يتعاملون بشكل مختلف نسبياً مع الدرك «الذين كانوا يعتبرون من المغضوب عليهم في شوارع الضاحية بسبب مواقف الوزير السابق أحمد فتفت»، كما يقول شاب يدخن النرجيلة في على ناصية من نواصي الشياح، في إشارة منه إلى ما حصل في ثكنة مرجعيون، أيام عدوان تموز (يوليو)، والذي وضع الدرك في خانة الموالاة والحكومة ضد المعارضة وحزب الله. ويقول إن مفارز الدرك في حارة حريك والمريجة والأوزاعي وبئر حسن وبرج البراجنة، تقوم بعملها في شكل شبه عادي، وذلك «بالتنسيق مع فعاليات المنطقة، أي حزب الله أو حركة أمل». وفي التفاصيل، أن هذه المخافر أو نقاط الدرك «غير مؤهّلة» أن تقوم بأي مداهمة لمنزل من المنازل من دون التنسيق مع المسؤولين في المنطقة، والهدف من ذلك «هو عدم السماح بحصول احتكاكات مع الناس، وفي الوقت عينه كي لا تتحول حجة يستطيع رجال الدرك معها الدخول إلى المنزل ساعة يشاؤون، متذرعين بحجج قد تكون واهية». ويقول شبان من الضاحية الجنوبية، ومن بينهم منتمون إلى «حزب الله»، إن أي شخص يطلبه الدرك لا سيما اذا كان مشتبهاً بارتكابه جناية أو جريمة، يقوم شبان الحزب بالقبض عليه وتسليمه إلى المخفر مباشرة. ويؤكدون أن التعاون مع الدرك والقوى الأمنية في الضاحية مستمر ويحكمه الاحترام والود بين المسؤولين الحزبيين والمسؤولين في قوى الأمن الداخلي. ومن جهة أخرى، ولدى أي اشتباه من جانب مسؤولي الحزب بتحركات مشبوهة من جانب أي كان في المنطقة، يقوم شبان الحزب (حزب الله)، بالتحقيق مع المشتبه فيه ومن ثم تسليمه إلى المخفر، الذي يحوله بدوره الى التحقيق والمحكمة. والشائع في الضاحية أن «عودة القوى الأمنية» الى تلك المنطقة إنما تمّت بناء على طلب من «حزب الله»، الذي «ضاق ذرعاً بعصابات ترويج المخدرات وسرقة السيارات، التي تحاول الاحتماء في المنطقة»، وسيُصار إلى تفعيلها في شكل أوسع في وقت قريب. وإبّان حرب تموز (يوليو)، ظهرت في الضاحية الجنوبية مجموعة شبان، قيل في البداية إنهم متطوعون، يرتدون ملابس خُطّت عليها كلمة انضباط، يقومون بتسيير السيارات وتسهيل المرور، لا سيما قبل رفع مخلّفات العدوان الإسرائيلي. إلاّ أنه ومع مرور الوقت تم استبدال هذه المجموعة، بمجموعة أخرى، أو على الأقل باسم آخر، فتبدّلت ملابس معظمهم من «انضباط» إلى «وعد». ويعيد انحسار عدد شرطة السير أو الدرك في الطرقات، إلى «النقص في عديد شرطة السير»، والذي كان مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي وافق على رفع عدد عناصرها، ولكن لم يطبّق ذلك على الأرض. أمّا بعض أبناء الضاحية فيرون أنهم ليسوا بحاجة إلى مثل هؤلاء، لأن البلديات تقوم بواجبها في الطرق، في حين أن «حزب الله» يقوم بواجباته لحمايتهم. وعن أفراد «وعد» ومدى استعدادهم للامتثال لأوامر «جنودها»، يُشير أحد سكان الضاحية الجنوبية الى «أن عناصر «وعد» لا يقومون بمضايقة أحد، والشركة هي كمعظم شركات الحراسة في لبنان، لا سيما شركة «المستقبل» للحراسة المنتشرة في معظم أحياء بيروت». ويرى حسن، أحد المتمركزين على ناصية في منطقة «القائم» أن الفارق الوحيد بين الشركتين الأمنيتين أن موظفي «المستقبل» يرتدون اللونين الأزرق والكحلي، أمّا موظفو «وعد» فيرتدون الألوان الترابية كالبيج والبني. ويضيف ساخراً: «إلاّ أن ما هو محلل لغيرنا محرم علينا، إنهم يحاولون أن يوصمونا بأي تهمة، لقد أصبحنا الإرهابيين في نظرهم». التصوير ممنوع منعاً باتاً في الشوارع «لأسباب أمنية»، وإذا لزم الأمر فأنت بحاجة إلى إذن خاص من أمن «حزب الله» بذلك. وانسحب غلاء أسعار الشقق السكنية على مختلف الشوارع بعدما كان محصوراً بالمربعات الأمنية، التي كانت تعتبر الأغلى ثمناً من الأحياء الأخرى، وغير مفتوحة أمام من يريد، فالقاطن فيها يخضع لتحريات عدة، تتم بعدها الموافقة على طلب سكنه في المنطقة أو رفضه. ويعيد بعضهم ارتفاع الأسعار الى الطفرة العقارية في لبنان، وزيادة الطلب على الشقق، لا سيما أن كثراً ممّن تهدمت منازلهم فضّلوا الابتعاد إلى بعض الشوارع التي بقيت بمنأى عن القصف الإسرائيلي عام 2006. «هروب إلى الوراء»، لم يقابله ارتياح من بعض السكان في تلك الأحياء، وتقول ام حسن «الله يستر، إذا حصلت حرب جديدة فسيصلنا الدور هذه المرة لا محالة». وتوضح: «عائلتان جديدتان سكنتا في المبنى عندنا، والنساء في كلتيهما ترتديان التشادور». أم حسن تؤكد أنها لن تخرج من منزلها في حال حصول حرب، لأنه حتماً سيتم تدميره، معتبرة ان «من الأشرف أن يموت الإنسان، إذا فقد مأواه»، وتضيف بتوجس واضح: «سمعتهن يتكلّمن الإيرانية». الأمر الذي ينفيه الناطور قائلاً: «إنها تظنّ أن اللغة الإنكليزية، إيرانية، إن إحداهن أجنبية، ولكن التشادور، يضغط على أعصاب أم حسن». ومع عدم تمكن أم حسن من تكرار لفظ أي كلمة مما تقوله السيدات، يضحك ناطور المبنى ويداعبها قائلاً، بعد أن يغمز بعينه كمن يريد إثبات أمر: «انسي الأمر، المهم من ستنتخبين؟»، فتنتفض: «بدها سؤال أكيد المقاومة». جواب أم حسن غير مستغرب في المنطقة، وهو قلّما يُسمع، إذ إن السؤال نادراً ما يُطرح، فلا مكان للكلام عن الانتخابات النيابية في الضاحية الجنوبية، ولا أثر لمرشحين على رغم اقتراب المهلة النهائية للترشح في السابع من نيسان (أبريل). وحدها صورة النائب بيار دكاش والمعروف ب «النائب التوافقي» عن المقعد الماروني لبعبدا، مرفوعة على سيارة «قديمة»، على مدخل الجسر الممتد من الحدث إلى طريق المطار. تموضع هذه السيارة إلى جانب بعض اللافتات الإعلانية لمختلف الأحزاب (الموالية والمعارضة) والتي تمتد على المداخل الرئيسة للضاحية، من دون الغوص في شوارعها، يوحي بأن لا طريق للمعركة الانتخابية، إلى تلك الشوارع، التي تفرغ أيام العطل الأسبوعية بعد توجه الأكثرية الساحقة من سكانها إلى قراهم. وحدها المكاتب الانتخابية نشطت في الشهرين السابقين من أجل تذليل «أي عقبة» في وجه هؤلاء من أجل استصدار بطاقات هوية تمكّن حاملها من الاقتراع. وعمدت هذه المكاتب إلى تأمين أي أوراق من أجل المضي قدماً في عملية استصدار الهويات، ويتكفل كل عضو في هذه المكاتب بأبناء قريته ممن يتقدمون سائلين عن أي استفسار، ويوضح لهم أن التصويت «حق مكتسب، ولكل صوت قيمته الأساسية، ويجب ألاّ نعتبر (أبناء الطائفة الشيعية) أن لا معركة في مناطقنا، فإن الاقتراع حق ونسبة التصويت مهمة في إطار تسجيل المواقف السياسية، لا سيما أن كلمتي الأكثرية والأقلية دخلتا بقوة على الحياة السياسية في لبنان». ويقول ابن القرية، من الماكينة الانتخابية ل «حزب الله»، «إن هذه المساعدات هي مساعدات بديهية يقدمها الحزب، من أجل تسهيل الأمور اللوجستية، على خلاف ما يقوم به مرشحو 14 آذار». ويضيف: «وإن كنت لا تريدين الانتخاب فلا بد من ان تحصلي على هويتك، نحن لا نفرض على أحد أي أمر». ويشير إلى أن «بعض المرشحين كأحمد الأسعد يقوم بدفع ألف دولار أميركي للشخص، شرط أن يأخذ منه بطاقته، لأنه يعلم أن الأصوات التي سينالها لن تقدّم أو تؤخر ولكنه يريد أن يثبت أن نسبة التصويت للوائح المعارضة قليلة». لكن لا توجد مصادر أخرى لتأكيد مثل هذا الكلام...