في تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» بخصوص الوضع السوري، أكدت المنظمة أن النظام السوري استعمل في حربه على شعبه الثائر قنابل عنقودية هي، وفقاً للمعاهدات الدولية، من الأسلحة المحظورة والمحرّم استخدامها، وتم عرض فيديوات وصور بثها ناشطون على الفضائيات وموقع «يوتيوب» لتلك القنابل، وهي كانت تلقى من الطائرات السورية على المناطق الثائرة وخصوصاً التي تشهد تجمعات ومواقع للجيش الحر. أول ما تستعيده ذاكرة المرء لدى سماعه بأسلحة كهذه هو استخدام اسرائيل لها في معاركها مع العرب، وهذا قد يكون باباً للمقارنة مع استخدام اسرائيل لتلك القنابل، ولأسلحة غيرها كذلك، في حربها على الفلسطينيين واللبنانيين طوال عقود من الصراع. يذكر شهود ممن عاصروا اجتياح اسرائيل لبيروت عام 1982 أن سلاح الجو الإسرائيلي استخدم قنابل فراغية قوضت إحداها مبنى سكنياً كان يُعتقد بأن الرئيس الراحل ياسر عرفات يتمركز فيه إلى جانب قيادات بارزة في منظمة التحرير، وسوّت هذا المبنى بالأرض. المقارنة بين استخدام اسرائيل للأسلحة تلك واستخدام النظام السوري لها لا تجوز برأينا في هذا الموضع لثلاثة أسباب: أولها، خشية كاتب هذه السطور أن يقارِب، عن غير قصد، خندق الممانَعة، ويتم تشبيهه بأبواق اليمّ الممانع الذي لا يكف عن النحيب والعويل في هجاء اسرائيل وممارساتها ضد العرب، ويغيّب، عن سبق الإصرار والتصميم، ممارسات النظام السوري ضد السوريين المنتفضين واستخدامه السلاح بكافة أشكاله وأصنافه ضدهم. هنا يغيب الموقف المبدئي من الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية والجولان ومزارع شبعا، ومن الاحتلال الأسدي لسورية والحرب الإستعمارية الداخلية التي يقودها النظام ضد السوريين ومصادرة المشهد السوري لمصلحة عائلة دمّرت وتدمّر البلد دونما رادع، ويحضر الضجيج الممانِع الذي يضع موقفاً كهذا في خانة العداء ل «سورية الأسد» وموقفها «الممانع» والداعم ل «المقاومة». وثانيها، أن اسرائيل كانت تستخدم الأسلحة المحرمة تلك في حروبها مع دول الجوار واعتداءاتها عليهم، أي في الحروب بينها كدولة وكيان مستقل «بصرف النظر عن موقفنا من هذا الكيان وهو ليس مجال نقاشنا هنا»، وبين قوى خارجية - إقليمية كانت بحالة صراع دائم معها وعلى قاعدة الحرب بين الدول، حتى لو لم تكن الدولة الفلسطينية قائمة ككيان سياسي ومؤسسات. أما نظام الأسد فهو يلقي بقنابله العنقودية على شعبه الذي لم يحمل السلاح إلا اضطرارياً وبعد انطلاق الثورة بأشهر، مع إقرارنا بتوسع دائرة حاملي السلاح وفوضى اليوم والمستقبل التي خلقتها ولا بد أن تخلقها تلك الحالة، وارتفاع صوت الإسلام السياسي والفكر التكفيري، واستدخال مسلّحين غير سوريين جعلوا من الساحة السورية مسرحاً لعملياتهم ومشروعهم الجهادي، والذي يبدأ بالقتال في سورية وينتهي على تخوم «الحور العين وجنات عدن تجري من تحتها الانهار». القنابل «العنقودية» التي يلقيها «آخر العنقود» في سلالة الحكم الأسدي لسورية هي قنابل موجهة ضد السوريين بوضوح، ودونما حسابات للضحايا اليوم وللمسائلة والمحاسبة عن ذلك مستقبلاً، أقلها المحاسبة أمام هذا الشعب بعد سقوط نظام العائلة تلك. وثالثها، معطوفاً على النقطة الثانية، أن النظام السوري على غير استعداد للقيام بحرب مع اسرائيل كعدو خارجي، وهو وفّر ظروف بقاء الجبهة مع اسرائيل هادئة «إلى الأبد»، لمصلحة استقرار العرش الأسدي الذي لم تهزه اسرائيل يوماً، بل هزه حدثٌ ثوريٌ انطلق في 15 آذار 2011 ولن ينتهي إلا مع الاطاحة النهائية لهذا العرش وهذا النمط من الحكم في العالم العربي معه. نبقى في المجال الجوي وضمن الحديث عن الطيران السوري الذي لا يزال النظام يملك قسماً من الأراضي السورية بسببه، ذلك أن القنابل العنقودية التي يلقيها النظام السوري والتي تحدث عنها تقرير «هيومن رايتس ووتش» هي من النوع المعروف للعالم كسلاح أولاً، وكسلاح محظور ثانياً، لكن ماذا عن سلاح جديد لم يعهده العالم إلا قبل أيام، وهو عبوات الغاز المنزلي الذي كان يستخدمه السوريون للأمور المنزلية قبل الثورة، وافتقدته شريحة كبيرة منهم أثناء الثورة، قبل أن يجدوه نازلاً على رؤوسهم من طائرات النظام المحلقة فوق حلب وإدلب! هكذا يكون فعله تدميرياً بدلاً من الفعل الذي وجدت عبوات الغاز تلك لأجله. من شأن توسّع مكْرُمات الأسد على «شعبه» لاحقاً، أن يهبهم الأثاث المنزلي والأجهزة الكهربائية التي صادرتها حزمة الإصلاحات من حمص وحماة وحلب وريف دمشق وريف السلَمية، وبذات الطريقة التي أهداهم فيها عبوات الغاز المنزلي. النظام السوري يحاول جاهداً أن يبقى سلاح الجو بيده ودونما تشققات وانشقاقات، والطيارون المناط بهم قصف الشعب السوري هم من الضباط الموالين ولاءً مطلقاً للأسد، وهؤلاء يجدون في التحليق في الجو وإلقاء القذائف العنقودية وغير العنقودية مأثرة لهم في علياء سماء سورية... في الوقت الذي كانت فيه قناة«MBC action» متفرغة لنقل حدث السقوط الحر للمغامر النمسوي «فيليكس بومغارتنر» سقوطاً حراً من على ارتفاع آلاف الأقدام في الجو، أي من أعلى نقطة في كوكب الأرض، كانت فضائيات عربية وغير عربية تنقل أخبار القصف الجوي اليومي لمناطق سورية، يتخللها مشاهد سقوط طائرة ميغ من طيران جيش النظام على أراضٍ في ريف درعا. لم يشعر الطيار السوري الذي سقط وطائرته طبعاً بالاعتزاز الذي يشعره النمسوي آنف الذكر لحظة سقوطه السقوط الحر والاختياري، اللهم شعوره بالراحة لأداء واجبه تجاه «السيد الرئيس» واستشهاده في سبيل «الوطن وسيد الوطن». قبل ذلك، كان رائد فضاء وطيار سوري هو اللواء محمد فارس أعلن انشقاقه عن نظام الأسد. محمد فارس كان رسول الشعب السوري ذات يوم إلى الفضاء الخارجي برفقة البعثة السوفياتة قبل أكثر من 25 عام، وهو إذ يتخذ هذا الموقف ويطلّق القفص السياسي والعسكري للنظام السوري، فإنه يعلن أن الثورة السورية لا تفتقد مواقف أخلاقية وإنسانية مساندة لها، في زمن عزّت فيه تلك المواقف. وخارج أي اتهام وتوصيف قد يوجهه بعضهم إليها، تبقى الثورة السورية وانتصارها المرتقب ونجاحها في إطاحة حكم بشار الأسد وعائلته هي الممر الوحيد الذي يستطيع السوريون التحليق عبره في السماء وفي الفضاء الرمزي لهم، وإن مع الحضور الواضح للخراب والدمار الهائل الذي شهدته البلاد، وستشهده مستقبلاً، للأسف، كما تشير كل المؤشرات، ومع خراب سياسي وثقافي ومادي لم يكن نظام القنابل العنقودية ضمانة ضده بقدر ما كان سبباً له.